مرة أخرى تثبت كتائب القسام – الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس – أنها تمسك بمفاتيح الميدان والسياسة معاً. فبثّها لمقطع فيديو يظهر اثنين من الأسرى الإسرائيليين، مع تأكيد وجود أكثر من ثمانية آخرين أحياء في غزة، لم يكن مجرد عرض إعلامي، بل رسالة مدروسة بعناية تستهدف العمق الإسرائيلي بكل مكوناته: القيادة السياسية، المؤسسة العسكرية، والرأي العام المنقسم.
ظهر في الفيديو الأسير الإسرائيلي غاي دلال، الذي تحدث بنبرة يائسة قائلاً إنهم لم يعودوا يشعرون بأنهم أسرى لدى حماس فقط، بل أسرى لدى حكومة نتنياهو ووزرائه المتطرفين. هذه العبارة تختصر المأزق الإسرائيلي: حكومة عاجزة عن إعادة جنودها، بل تضعهم في قلب الخطر عبر استمرار الحرب.
دلال لم يتوقف عند توصيف وضعه، بل وجّه نداءً علنياً للإسرائيليين: "أخرجوا وتظاهروا، أحدثوا الفوضى، هذه فرصتنا الأخيرة للنجاة". ما يعني أن القسام لا تُخاطب فقط قادة العدو، بل تحوّل الأسرى أنفسهم إلى صوت يطالب بوقف الحرب، ويضغط على المجتمع الإسرائيلي من الداخل.
أحدث الفيديو الذي بثّته كتائب القسام صدمة واسعة داخل المشهد الإسرائيلي، إذ لم يعد الحديث مقتصراً على مصير الأسرى فحسب، بل تحوّل إلى مرآة تعكس حالة الانقسام السياسي والفكري داخل الكيان. الرسالة التي حملها الأسير غاي دلال لم تُقرأ كنداء فردي، بل كصرخة جماعية تُربك حسابات القيادة وتضع حكومة نتنياهو في مواجهة مباشرة مع الشارع الغاضب وعائلات الأسرى.
سارع زعيم المعارضة يائير لابيد إلى استثمار اللحظة، مؤكداً أن الفيديو دليل إضافي على ضرورة العودة إلى المفاوضات دون تأخير. لابيد شدد على أن "كل يوم تأجيل يعني ثمناً باهظاً"، في إشارة إلى أن استمرار العمليات العسكرية لن يضمن عودة الجنود، بل سيضاعف معاناتهم ويزيد الضغط على عائلاتهم. المعارضة ترى أن الصفقة مع حماس – مهما كانت شروطها – باتت أمراً لا مفر منه، وأن حكومة نتنياهو تفشل يوماً بعد يوم في التعامل مع الملف الأخطر على الرأي العام الإسرائيلي.
على النقيض تماماً، جاء رد وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير، الذي اختار التصعيد اللغوي والسياسي، داعياً إلى "الاحتلال الكامل والسحق الشامل وتشجيع الهجرة". هذا الخطاب يكشف بوضوح العقلية الاستعمارية التي تسيطر على أجنحة اليمين الإسرائيلي المتطرف، والتي ترى أن الحل يكمن في مزيد من الدماء والتهجير، متجاهلة عن عمد مصير الأسرى أنفسهم.
بن غفير وحلفاؤه يحاولون تحويل النقاش من إنقاذ الأسرى إلى مشروع "الحسم العسكري الشامل"، وكأن حياة الجنود الإسرائيليين لا تعني شيئاً أمام طموحاتهم الأيديولوجية. وهنا تبرز المفارقة: حماس، التي تحتجز الجنود، تُظهر حرصاً على إبراز صوتهم ومعاناتهم، بينما حكومتهم تزداد تطرّفاً وتتخلى عنهم في سبيل شعارات الاحتلال والتوسّع.
صراع الروايات داخل إسرائيل
ما بين خطاب المعارضة الذي يحاول إظهار قدر من العقلانية السياسية، وخطاب اليمين المتطرف الذي يدفع نحو مزيد من الدماء والتصعيد، يجد المجتمع الإسرائيلي نفسه أمام صراع روايات حاد.
المعارضة بقيادة لابيد تحاول تقديم نفسها كصوت إنقاذ، يطالب بوقف نزيف الوقت والدخول في مفاوضات جدية مع المقاومة، انطلاقاً من إدراكها أن استمرار الحرب لن يعيد الجنود إلى بيوتهم. في المقابل، يتبنى بن غفير ومعسكره خطاباً شعبوياً متشدداً، يقوم على "الوهم بالقوة المطلقة"، متجاهلين أن الاحتلال الكامل لغزة لم يعد خياراً واقعياً في ظل المقاومة المستمرة.
هذا الانقسام الحاد يعكس أزمة هوية عميقة داخل إسرائيل: هل هي دولة تبحث عن مخرج سياسي يحفظ ماء الوجه ويعيد أسراها، أم كيان استعماري ماضٍ في مشروع التوسع حتى على حساب دماء جنوده؟ وهنا يتضح أن حماس نجحت، عبر بث الفيديو، في تعرية هذه الأزمة أمام العالم، وكشف زيف الرواية الرسمية التي تزعم أن "الحرب هي السبيل الوحيد".
التوقيت والدلالات
لم يكن توقيت نشر الفيديو من قبل كتائب القسام خطوة عشوائية أو مجرد رسالة إعلامية عابرة، بل جاء في لحظة محسوبة بعناية لتخدم أهدافاً استراتيجية على أكثر من مستوى. فالمقاومة تدرك أن إدارة المعركة لا تقتصر على الميدان العسكري، بل تشمل الحرب النفسية والسياسية والإعلامية، وهو ما تجلى بوضوح في هذا المشهد.
في غزة، يتواصل العدوان الإسرائيلي بوتيرة متسارعة، حيث تهدد العمليات العسكرية ليس فقط حياة المدنيين العُزّل بل أيضاً حياة الجنود الأسرى أنفسهم. وهنا أرادت القسام أن تُلقي بالمسؤولية كاملة على عاتق الاحتلال: فإذا أصر الجيش على توسيع هجماته، فإن موت الأسرى سيكون نتيجة مباشرة لقرارات قادتهم في تل أبيب، لا بفعل المقاومة.
على الجانب الآخر، يعيش الشارع الإسرائيلي أزمة ثقة خانقة مع حكومة نتنياهو، خصوصاً مع تصاعد احتجاجات عائلات الأسرى التي تتهم الحكومة بالتخلي عن أبنائها واستخدامهم كورقة سياسية للبقاء في السلطة. ومع كل تسجيل جديد يصدر من غزة، تتضاعف هذه الأزمة وتزداد الفجوة بين الشارع والحكومة، وهو ما يعزز ضغط المعارضة ويفضح مأزق القيادة الإسرائيلية.
الرسالة واضحة
العبارة التي حملها الفيديو – "أي هجوم جديد سيعني موت جنودكم بأيديكم، وليس بأيدينا" – تمثل جوهر الرسالة. فالقسام أرادت أن تقول للإسرائيليين: أنتم من يتحكم بمصير أسراكم، قرار الحرب يعني قتلهم، وقرار المفاوضات يعني إعادتهم. بهذا الخطاب، وضعت المقاومة حكومة نتنياهو أمام خيارين أحلاهما مر: إما الاستمرار في الحرب وخسارة الجنود، أو الدخول في مفاوضات بشروط المقاومة.
لا يمكن النظر إلى ملف الأسرى باعتباره مجرد تفصيل جانبي في المواجهة، بل هو أحد أقوى الأسلحة الاستراتيجية التي تمتلكها المقاومة الفلسطينية. فحماس – عبر ذراعها العسكري كتائب القسام – أعادت صياغة معادلة الصراع، حيث لم يعد الأمر مقتصراً على إطلاق الصواريخ أو إدارة الأنفاق، بل أصبح ورقة الأسرى أداة موازية في القيمة والتأثير، قادرة على تغيير موازين القوة وإرباك حسابات العدو.
سلاح الوعي والضغط النفسي
إظهار الأسير الإسرائيلي على الشاشات وهو يتوسل حكومته للنجاة، لا يضرب فقط في صورة "الجيش الذي لا يُقهر"، بل يهدم الرواية الإسرائيلية التي تزعم أن الحل العسكري وحده قادر على إعادة الجنود. فالمقاومة هنا تستثمر البعد النفسي والإعلامي، لتزرع في وعي المجتمع الإسرائيلي أن قيادته تُضحي بهم من أجل أطماع سياسية وشخصية.
رسائل عملية موجهة لتل أبيب
القسام قالتها بوضوح عبر لسان الأسير:
الحرب لن تعيد جنودكم، بل ستسرّع نهايتهم.
المفاوضات وحدها هي الطريق، وإلا فلن يروا النور مرة أخرى.
كل يوم تأخير يعني كلفة أكبر، سواء في ثمن الصفقة أو في حجم الانقسام الداخلي الذي يفتك بالمجتمع الإسرائيلي.
معركة طويلة المدى
بهذا المعنى، تثبت حماس أن ورقة الأسرى ليست ورقة تكتيكية مرتبطة بظرف محدد، بل مشروع استراتيجي طويل الأمد، تُدار بحنكة وصبر، وتُستخدم في لحظات محسوبة بعناية. إنها ورقة مساومة تُكمل العمل العسكري على الأرض، وتضع الاحتلال أمام معادلة لا يستطيع الفكاك منها: إما الرضوخ لشروط المقاومة، أو خسارة أبنائه داخل غزة.
الفيديو الأخير الذي بثته كتائب القسام لا يمكن التعامل معه كـ"مادة إعلامية عابرة"، بل هو جزء أصيل من معركة الوعي التي تديرها المقاومة بمهارة منذ اندلاع المواجهة. فالقسام تدرك أن الحرب مع الاحتلال ليست فقط حرب نار وحديد، وإنما معركة على العقول والقلوب، معركة تهدف إلى فضح هشاشة الكيان من الداخل، وكشف عجز قيادته أمام الرأي العام المحلي والعالمي.
في اللحظة التي يتخبط فيها الاحتلال بين صقوره الذين يدعون إلى الحسم العسكري وحمائمه الذين يطالبون بالتفاوض، تتدخل المقاومة لتُعيد رسم المشهد. فهي لا تكتفي بإظهار أن الأسرى أحياء، بل توظف أصواتهم كأداة لزعزعة الثقة بين المجتمع الإسرائيلي وقيادته. وهنا تكمن قوة الفيديو: تحويل الأسير نفسه إلى شاهد على فشل حكومته، وإلى مُحفّز للرأي العام كي يثور في وجهها.
بهذا الشكل، تُعرّي القسام حكومة نتنياهو أمام شعبها والعالم، وتُظهر أن الاحتلال ليس قادراً على حماية جنوده ولا حتى على إعادتهم. وفي المقابل، تؤكد المقاومة أنها تمسك بخيوط اللعبة، وتُديرها بذكاء استراتيجي يوازن بين البعد العسكري والإعلامي والسياسي. إنها رسالة مباشرة تقول: "مهما طال أمد المعركة، نحن من يملك زمام المبادرة، ونحن من يفرض الشروط."
حماس وصناعة الخطاب المقاوم
من خلال هذا الفيديو وأمثاله، تثبت حماس أنها لا تخوض معركتها عسكرياً فقط، بل تعمل على صناعة خطاب مقاوم متكامل يجمع بين الصورة والكلمة والرمز. فالمشهد المصوَّر للأسير وهو يناشد حكومته، ليس مجرد دليل على وجوده على قيد الحياة، بل هو مادة مُحمّلة بالرسائل السياسية والنفسية، تُخاطب الداخل الإسرائيلي، والوسطاء الإقليميين، والرأي العام العالمي في آنٍ واحد.
بهذا الخطاب، تنقل حماس المعركة من حدود غزة إلى قلب تل أبيب، حيث تجد الحكومة نفسها مضطرة للتعامل مع ضغط عائلات الأسرى، ومعارضة سياسية متنامية، وتصدع داخل المجتمع الإسرائيلي. كما تُظهر للعالم أن المقاومة قادرة على فرض معادلات جديدة، تُوازن بين الميدان العسكري وأدوات الإعلام والحرب النفسية، بما يجعلها اللاعب الأكثر تأثيراً في مسار الصراع.