يتحول ملف الأدوية المنتهية الصلاحية في لبنان إلى ساحة تجاذب جديدة بين المستوردين والصيادلة، في ظل أزمة دواء لم تنته فصولها بعد وبينما يرفض مستوردو الأدوية الحديث عن "كميات ضخمة" من الأدوية المنتهية، معتبرين الأمر "محض تضخيم"، يحذّر الصيادلة من خطر حقيقي يتفاقم يومياً داخل الصيدليات.
قراءة معمقة للمشهد تكشف أن القضية تتجاوز السجال الإعلامي، لتلامس جوهر النظام الدوائي اللبناني بكل أزماته.
خطاب المستوردين: دفاع في وجه التهويل:
في بيان صدر مطلع أيلول، شددت نقابة مستوردي الأدوية وأصحاب المستودعات على أن ما يُتداول عن كميات ضخمة من الأدوية المنتهية الصلاحية في السوق "محض تضخيم غير مبني على أي معطى علمي موثوق، ويُستخدم – مع الأسف – كورقة تجارية وتفاوضية في غير محلها". النقابة أضافت أنّه "في حال ثبوت أي من هذه الادعاءات، تطالب وزارة الصحة العامة والجهات الرقابية بفتح تحقيق شامل وشفاف".
البيان لم يكتفِ بالنفي، وأشار إلى أن صلاحية معظم الأصناف تمتد لثلاث سنوات، ما يعني أن الأدوية المنتهية اليوم دخلت السوق في 2022 و2023، أي في ذروة الأزمة.
من هنا، طرحت النقابة علامات استفهام حول التخزين والتصريف، ملمحة إلى أن المشكلة قد تكون في إدارة السوق أكثر منها في عملية الاستيراد.
صوت الصيادلة: قلق يتخطى السجال:
على الضفة الأخرى، يقدم نقيب الصيادلة جو سلوم رواية مختلفة، فهو يؤكد أن الصيدليات تعاني فعلاً من تراكم الأدوية المنتهية الصلاحية، وأن الحل الوحيد هو استرداد المستوردين لهذه الأدوية وإتلافها خارج لبنان، سلّوم يذكّر بالمادة 53 من قانون مزاولة المهنة التي تلزم الشركات باسترداد المرتجعات، ويستشهد بقرار مجلس شورى الدولة الصادر في كانون الثاني 2024 الذي أعاد العمل بآلية المرتجعات بعد سنوات من التعطيل.
بالنسبة للصيادلة، استمرار تجاهل هذه الآلية يعني ترك الصيدليات تتحمل وحدها الخسائر المالية، وتعريض المرضى والبيئة لمخاطر حقيقية.
خلفيات قانونية وتنظيمية:
القضية لا تنفصل عن السياق القانوني والإداري. فالمادة 53 من قانون الصيدلة وُضعت منذ 1994 لضمان استرداد الأدوية المنتهية، غير أن قرارات لاحقة جمدت العمل بهذه المادة، ما سمح بتراكم المرتجعات.
قرار مجلس شورى الدولة الأخير أعاد فرض تطبيقها، لكن التنفيذ على الأرض لا يزال متعثراً بسبب الخلاف بين النقابة والوزارة والشركات.
أزمة 2022 – 2023: تراكم بلا حلول:
خلال فترة رفع الدعم عن الدواء وتراجع القدرة الشرائية، لجأت الصيدليات إلى تخزين كميات كبيرة خوفاً من الانقطاع، ثم تراجع الطلب مع ارتفاع الأسعار. النتيجة كانت تكدّس مخزون يقترب من انتهاء الصلاحية. ومع غياب آلية المرتجعات الفعالة، لم تجد هذه الكميات طريقاً إلى الاسترداد، فبقيت في الصيدليات أو المستودعات، وأصبحت عرضة للتسرب أو الإتلاف العشوائي.
الأبعاد الصحية والبيئية:
منظمة الصحة العالمية تحذر من أن استخدام أدوية منتهية يفقدها الفعالية أو يحولها إلى مواد خطرة، في لبنان، حيث آليات التخلص من النفايات الطبية ضعيفة، يصبح الخطر مضاعفاً:
احتمال أن تدخل الأدوية المنتهية إلى السوق عبر قنوات غير شرعية.
ايضاً تلوث بيئي نتيجة التخلص العشوائي منها في المكبات أو شبكات الصرف.
بالإضافة إلى عبء إضافي على الصيادلة الذين يخشون محاسبتهم على بيع أدوية فقدت صلاحيتها رغم أنها لا تزال مكدسة في رفوفهم.
تضارب الروايات وغياب الأرقام:
التباين بين المستوردين والصيادلة يعكس غياب الشفافية في الأرقام. فلا وزارة الصحة ولا النقابات نشرت حتى الآن إحصاءات دقيقة حول حجم الأدوية المنتهية أو المستردة، هذا الفراغ سمح بتكاثر الشائعات وتحويل الملف إلى مادة سجال تجاري وإعلامي، فيما يبقى المريض الحلقة الأضعف.
حجم الأضرار:
الأضرار لا تُقاس فقط بالخسائر المالية، بل أيضاً بتهديد مباشر للصحة العامة. بعض الأدوية، مثل المضادات الحيوية أو الحقن، تصبح خطرة عند استخدامها بعد انتهاء صلاحيتها. أما بيئياً، فالتخلص العشوائي من كميات كبيرة يعني تلوثاً طويل الأمد للمياه والتربة. والأخطر أن استمرار الأزمة بلا معالجة جدية يقوض ثقة اللبنانيين بالسوق الدوائية برمّتها.
حلول مطروحة:
يرى مراقبون أن الحلول متوافرة لكن الإرادة ضعيفة. المطلوب أولاً نشر بيانات رسمية شفافة عن حجم الأدوية المنتهية والمتلفة، كما يجب إلزام المستوردين باسترداد المرتجعات وتعويض الصيدليات بأصناف صالحة لا يقل أهمية، إنشاء نظام تتبع إلكتروني يراقب دورة حياة الدواء من الاستيراد حتى البيع، ما يمنع التسرب.
إلى جانب ذلك، يمكن عقد شراكات مع جهات دولية لإتلاف الأدوية في الخارج وفق معايير بيئية صارمة. وأخيراً، يبقى ضرورياً فتح خط ساخن للتبليغ عن أي محاولة بيع لأدوية منتهية، حماية للمريض وللثقة العامة.
القضية أبعد من سجال بين نقابتين إنها مرآة لأزمة الحوكمة في القطاع الصحي، حيث تغيب الشفافية وتُترك المسؤوليات معلّقة، المستوردون ينفون والصيادلة يحذرون، فيما المرضى مهددون بفقدان ثقتهم بالنظام الدوائي.
إن لم تُترجم القوانين والقرارات إلى إجراءات عملية، ستبقى الأدوية المنتهية رمزاً لفوضى قطاع حيوي يفترض أن يكون خط الدفاع الأول عن صحة اللبنانيين.