إعادة ضبط الاقتصاد السوري عبر الليرة الجديدة

رزان الحاج

2025.09.03 - 12:45
Facebook Share
طباعة

 شهدت سوريا خلال السنوات الماضية أزمة اقتصادية عميقة، حيث فقدت الليرة السورية جزءاً كبيراً من قيمتها الشرائية، وتفاقمت آثار التضخم والفوضى في السوق النقدية. بعد سقوط النظام السابق، أصبح من الواضح أن استمرار الوضع الراهن سيؤدي إلى مزيد من التدهور الاقتصادي، وفتح الباب أمام المضاربات غير المنظمة التي أضعفت الثقة بالعملة الوطنية، وجعلتها عرضة للتلاعب في السوق السوداء.


في هذا السياق، اتخذ المصرف المركزي السوري قراراً بإصدار ليرة سورية جديدة، بهدف إعادة السيطرة على السيولة النقدية، ووقف تدفق الأموال المهربة، واستعادة الثقة بالعملة الوطنية. ويرى محللون اقتصاديون أن هذه الخطوة ليست مجرد تغيير شكلي للعملة، بل خطوة استراتيجية تهدف إلى تعزيز الاستقرار المالي والسيطرة على الأسواق.


أحد الدوافع الأساسية وراء إصدار العملة الجديدة هو حجم الكتلة النقدية المهربة التي خرجت من البلاد في السنوات السابقة، والتي استخدمها مضاربون للسيطرة على سوق الصرف وفرض تقلبات غير طبيعية في أسعار العملات. ومع وجود هذه الأموال خارج السيطرة الرسمية، فقد كان من الصعب ضبط الاقتصاد وإعادة التوازن إلى الأسواق. ومع إدخال العملة الجديدة، تصبح الأموال المهربة غير صالحة ما لم تدخل النظام المصرفي، مما يتيح للدولة فرصة التحكم بالسيولة وفرض الرقابة على مصادر الأموال الكبيرة.


البعد الآخر للإصدار الجديد يرتبط بالسيادة النقدية. فقد اعتمد النظام السابق على طباعة النقود لتغطية العجز المالي، ما أدى إلى تضخم هائل وفقدان الثقة بالليرة. واليوم، يسعى المصرف المركزي إلى ممارسة سياسة نقدية مستقلة وفعّالة، بعيداً عن الضغوط السياسية أو التدخلات قصيرة الأمد، بما يعزز مكانته كمرجعية وحيدة للسيولة في البلاد.


كما يحمل القرار أبعاداً رمزية مهمة، إذ تمثل العملة الجديدة علامة على بداية مرحلة اقتصادية جديدة، تعكس رغبة الدولة في التحرر من تبعات الاقتصاد الموازي وبقايا النظام السابق. فالرموز والوجوه التي كانت على الأوراق النقدية القديمة مرتبطة بالفترة الماضية، وتغييرها يبعث رسالة بأن الدولة الجديدة تعمل وفق معايير مالية أكثر شفافية واستقلالية.


نجاح العملة الجديدة يتطلب تحقيق عدة ركائز أساسية. أولها الاستقرار النقدي الجزئي قبل الإصدار، لضمان أن العملية لن تزيد من الاضطراب في السوق. ثانيها إصلاح القطاع المصرفي، بما يشمل إعادة هيكلة البنوك، وضمان قدرتها على تلبية طلبات السحب والتحويل، وهو ما يعزز ثقة المواطنين في النظام المالي ويحد من اللجوء إلى السوق السوداء.


كما يرتبط نجاح العملة الجديدة بفتح المجال أمام البنوك العربية والدولية، ما يضيف بعداً من الشفافية والثقة الدولية، ويتيح جذب الاستثمارات الأجنبية تدريجياً. وإلى جانب ذلك، تعتبر السياسة النقدية الرشيدة والمستقلة شرطاً أساسياً لاستقرار العملة، حيث يجب الالتزام بعدم طباعة النقود لتمويل العجز وضمان أن تكون إدارة المصرف المركزي بعيدة عن أي تقلبات سياسية أو مصالح شخصية.


التوازن بين حجم الكتلة النقدية والإنتاج المحلي يمثل ركيزة حيوية أيضاً. فالعملة الجديدة لا قيمة لها إذا لم تصاحبها زيادة في المعروض من السلع والخدمات الأساسية، ودعم الإنتاج المحلي في الزراعة والصناعة، وإدارة الاحتياطيات المالية بشكل سليم.


على الصعيد التقني، فإن عملية إصدار العملة تتطلب تخطيطاً دقيقاً، يشمل تصميم أوراق نقدية جديدة بأعلى مستويات الأمان، استخدام ورق خاص وخيوط أمنية وعلامات مائية، وترقيم دقيق لكل ورقة لضمان تتبعها، بالإضافة إلى تأمين النقل والشحن لضمان وصولها دون أي اختراق أو تلاعب.


وأخيراً، تمثل العملية رسالة سياسية واقتصادية في الوقت نفسه، إذ تعكس قدرة الدولة على إعادة ضبط الأسواق وتجفيف منابع الفساد والمضاربة، وتوضح التزامها بسياسة مالية مستقرة. كما تعكس للعالم الخارجي استعداد سوريا الجديدة لتطبيق معايير مالية حديثة والانفتاح التدريجي على الأسواق العربية والدولية، ما يسهم في إعادة بناء الثقة وتحفيز الاستثمارات.


باختصار، إصدار الليرة السورية الجديدة ليس مجرد خطوة نقدية، بل خطوة استراتيجية متكاملة تستهدف إعادة الثقة بالعملة، وضبط السوق، واستعادة السيادة المالية للدولة، مع توفير أساس متين للتنمية الاقتصادية المستدامة في مرحلة ما بعد الأزمة.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 1 + 6