في لحظات الانهيار الكبرى، تذوب الفواصل بين الأدوار وتتداخل المصائر. هكذا تبدو حكاية عبد الله (اسم مستعار)، أحد الضباط الذين خدموا طويلاً في صفوف قوات النظام المخلوع في سوريا، قبل أن يجد نفسه فجأة خارج المعادلة. من مقاتل يرتدي بزته العسكرية إلى لاجئ يبحث عن الأمان في روسيا، الدولة التي طالما كانت شريكاً للنظام الذي عمل تحت رايته.
هذه السيرة التي ينقلها تقرير مترجم عن موقع Worldcrunch ليست مجرد قصة فردية، بل مرآة لانهيار منظومة كاملة، وانكسار العلاقة بين السلطة ومن كانوا يوماً عماد قوتها.
صدمة الانهيار
في عام 2018، رفض عبد الله فرصة التسريح من الجيش، واختار البقاء في صفوفه خلال معارك "ردع العدوان". كان يعتقد أن البقاء واجب، أو ربما هرباً من مواجهة الواقع المدني. لكنه حين وصل خريف 2024، اصطدم بوقائع لم تخطر له على بال: انهيار المؤسسة العسكرية، هروب الضباط الكبار، وترك الجنود لمصيرهم.
يصف تلك الأيام بكلمتين فقط: "مفاجأة" و"فوضى". ومع هروب رئيس النظام في ديسمبر الماضي، أدرك أن ما عاشه طوال سنوات لم يكن سوى وهم ينهار أمام عينيه.
من ريف اللاذقية إلى لبنان
ترك عبد الله آخر موقع خدم فيه بحمص، متجهاً إلى قريته في ريف اللاذقية. هناك استيقظ فجراً على خبر "سوريا بلا الأسد". في البداية شعر بالذهول، ثم حاول إقناع نفسه أن النظام الجديد سيتقبله، كونه مجرد ضابط نفذ الأوامر. لكن الأخبار المتلاحقة عن مقتل ضباط سابقين بددت أوهامه سريعاً.
هرب إلى لبنان، قضى أسبوعاً في سهل عكار، ثم عاد أدراجه بعدما شعر أنه بلا مستقبل ولا أمان هناك. بدأ يفكر بدولة أخرى يمكن أن تمنحه اللجوء، فوجد أبواب موسكو مفتوحة فجأة بعد أن تقدم الأسد نفسه بطلب لجوء سياسي.
بوابة حميميم
بحلول مارس/آذار 2025، كان العنف قد بلغ ذروته في ريف اللاذقية. آلاف المدنيين والعسكريين السابقين توافدوا إلى قاعدة حميميم الروسية طلباً للأمان. انضم عبد الله إليهم، وهناك صودرت هواتفهم، وأجبروا على الانتظار في ظروف قاسية.
يصف المشهد قائلاً: "كانت الخيام تملأ الباحة الداخلية للمطار، الأطفال ينامون على الأرض، والجنود الروس يوزعون البطانيات بوجوه جامدة. لم يكونوا مستعدين للتعامل معنا كلاجئين، بل كملف أمني وعسكري".
داخل القاعدة، كان الوقت ثقيلاً. روتين يومي صارم، اجتماعات صباحية لتوزيع المهام بين الخيام، دروس لغة روسية للمبتدئين، وصوت الطائرات المسيرة في السماء يذكّرهم أن الخطر لم يبتعد بعد.
التوجس والخوف
لم تكن القاعدة مجهزة لاستقبال هذا العدد الكبير من الناس. البرد القارس، الأمطار، والازدحام جعلوا الحياة أقرب إلى معسكر اعتقال مؤقت. الأهم من ذلك أن عبد الله لم يعرف شيئاً عن مصير أهله لأيام، بعدما صودرت وسيلة تواصله.
زاد القلق حين سمع أن أحد أقاربه، وهو معارض علني للنظام، قُتل بالرصاص، فيما تعرض منزله للنهب. تحول صراعه الداخلي إلى مرآة لما يحدث خارج الأسوار: عنف، انتقام، وانهيار تام للثقة.
الرحيل إلى روسيا
بعد هجوم محدود على القاعدة في مايو/أيار 2025، شددت موسكو إجراءاتها الأمنية. لكن بعد أسابيع، نُقل عبد الله مع آخرين على متن طائرة شحن إلى موسكو. هناك استقبلهم وفد من وزارة الطوارئ الروسية، ووقعوا طلبات لجوء إنساني حصلوا بموجبها على إقامة مؤقتة لسنتين.
قضى أيامه الأولى في مجمع تابع للوزارة كان معدّاً أصلاً لاستقبال لاجئين أوكرانيين. يصف روتينه الجديد: "حياة مكررة، لكنها أفضل من الرعب في سوريا. هنا أنتظر فقط… أنتظر أن أعود يوماً".
دلالات أوسع
قصة عبد الله ليست حالة فردية. تشير تقارير روسية إلى تزايد أعداد السوريين الوافدين عبر حميميم، خاصة من الساحل. البعض يتحدث عن عشرات الآلاف. معظمهم من الطائفة العلوية التي كانت العمود الفقري للنظام، ووجدت نفسها فجأة في مهب الريح بعد سقوطه.
فتح موسكو أبوابها أمام هؤلاء يعكس تحولاً سياسياً وإنسانياً. فالدولة التي انتُقدت بشدة لرفضها طلبات لجوء السوريين قبل سنوات، صارت اليوم تستقبلهم بالجملة، ربما لحسابات تتعلق بتراث تدخلها في سوريا، وربما لحاجة داخلية إلى أوراق ضغط جديدة.
ما وراء القصة
من عبد الله إلى غيره، يبرز سؤال أكبر: ماذا يعني أن يلجأ جنود وضباط النظام إلى روسيا؟ هل هو نوع من الاستمرار في الولاء، أم مجرد بحث عن ملجأ أخير بعدما أدار الجميع ظهورهم لهم؟
الإجابة تبقى معقدة. لكن ما يظهر بوضوح أن "سوريا بلا الأسد" ليست فقط مرحلة سياسية جديدة، بل واقع يفرض نفسه على الأفراد الذين شكلوا يوماً أدوات السلطة. وبينما يروي عبد الله قصته من شقة مؤقتة في موسكو، لا يزال يردد عبارة واحدة: "أنتظر العودة… لكن لا أعرف إلى ماذا سأعود".