في مشهد يعيد خلط الأوراق ويثير التساؤلات حول تاريخ سوري غامض، عادت قضية الموقع الذي تعرّض للقصف الإسرائيلي عام 2007 شرق سوريا إلى الواجهة من جديد، بعدما أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن اكتشاف آثار يورانيوم فيه خلال تحقيقاتها الأخيرة. هذه المعلومة الصغيرة في ظاهرها، تحمل في طياتها أبعاداً سياسية وأمنية كبيرة، وتعيد فتح ملف ظل مطوياً لأكثر من عقد.
قصف غامض.. وسرية مطبقة
في سبتمبر/أيلول 2007، نفذت الطائرات الإسرائيلية غارة جوية مباغتة على موقع يُعرف باسم "الـكُبر" في ريف دير الزور. تلاشى المبنى المستهدف في لحظات، ومعه تلاشت الإجابات. فبينما قال النظام آنذاك إنه مجرد قاعدة عسكرية تقليدية، ذهبت تقارير الوكالة الذرية بعد سنوات إلى أنه كان أقرب ما يكون لمفاعل نووي سري، بُني بعيداً عن أعين المجتمع الدولي، وربما بمساعدة من كوريا الشمالية.
لم تمر سوى أيام حتى أزال النظام ما تبقى من آثار الموقع، سوّى الأرض، وأغلق الملف داخلياً. لكن العالم لم يغلقه. بقيت الشكوك معلقة، خاصة أن المنطقة لم تكن معدّة لإنتاج الكهرباء، ما أثار المخاوف من احتمال وجود نوايا تتجاوز الاستخدام السلمي للطاقة.
عينات تكشف المستور
بعد سنوات من التعثر، استطاعت فرق الوكالة الدولية للطاقة الذرية خلال العام الماضي أخذ عينات بيئية من ثلاثة مواقع "مرتبطة وظيفياً" بالمكان المستهدف. المفاجأة جاءت حين وُجدت جزيئات من اليورانيوم الطبيعي، لكنها لم تكن من النوع الموجود في الطبيعة مباشرة، بل من مصدر بشري، أي أنها خضعت لعملية معالجة كيميائية.
هذا الاكتشاف أعاد علامات الاستفهام مجدداً: إذا لم يكن الموقع مفاعلاً، فما تفسير وجود آثار اليورانيوم؟ وإذا كان فعلاً كذلك، لماذا لم تُعلن دمشق عن ذلك رسمياً، كما تقتضي القوانين الدولية الخاصة بالأنشطة النووية؟
تعاون غير مسبوق
التطور الأبرز في القصة هو موافقة الحكومة السورية الحالية على التعاون مع الوكالة الذرية، بعد سنوات من رفض ومماطلة الحكومة السابقة. ففي لقاء جمع رئيس الوكالة رافائيل غروسي بالرئيس أحمد الشرع في يونيو/حزيران الماضي، فتحت دمشق الباب أمام مزيد من الشفافية، ومنحت الوكالة حق العودة إلى الموقع وأخذ عينات إضافية، بل وحتى الاطلاع على الوثائق والتحدث مع المسؤولين السابقين عن البرنامج.
هذه الخطوة وُصفت بأنها قد تشكل "فرصة حقيقية" لحسم الجدل، وإنهاء قضية بقيت تؤرق المجتمع الدولي منذ ما يقارب عقدين. فالوكالة تعتزم العودة إلى دير الزور مجدداً، ومعها أمل في فك لغز ظل معقداً.
أبعاد سياسية تتجاوز العلم
القضية لا تتعلق باليورانيوم وحده، بل بما يمثله من رمزية سياسية واستراتيجية. إسرائيل بررت هجومها عام 2007 بأنه كان "ضربة وقائية" لمنع قيام برنامج نووي عسكري سوري. الولايات المتحدة دعمت الموقف الإسرائيلي لاحقاً، في حين التزمت أطراف أخرى الصمت أو التحفظ.
لكن بعد مرور أكثر من 17 عاماً، لا تزال آثار ذلك القصف تتردد. فالمجتمع الدولي يريد إجابة: هل كان النظام السوري يسعى بالفعل لامتلاك سلاح نووي، أم أن القصة مجرد رواية غير مكتملة الأدلة؟
موقع الكبر.. تفاصيل لم تُكشف بعد
المبنى الذي قُصف في ريف دير الزور لم يكن صغيراً أو هامشياً. تقارير عديدة أشارت إلى أنه يشبه في تصميمه مفاعلات نووية أخرى معروفة، مثل مفاعل "يونغبيون" الكوري الشمالي. وإذا صحت هذه الفرضية، فإننا أمام مشروع نووي كان في مراحله الأخيرة، قبل أن يُمحى من الوجود .
لكن الغموض ما زال سيد الموقف. فغياب التحقيق المباشر عقب القصف، وحرص النظام السابق على إزالة أي أثر للموقع، جعلا من الصعب التحقق بشكل قاطع مما كان يجري خلف الجدران السميكة للمنشأة.
لماذا الآن؟
يبقى السؤال الأهم: لماذا يعود الملف إلى الواجهة في هذا التوقيت؟ قد يكون السبب رغبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية في إنهاء جميع القضايا العالقة مع سوريا، خصوصاً أن المنطقة تشهد تحولات سياسية وأمنية كبرى. كما أن أي تعاون نووي سابق غير مُعلن يشكل تهديداً طويل الأمد، ليس لسوريا وحدها، بل للمنطقة بأسرها.
النهاية ما زالت مفتوحة
حتى الآن، لا يمكن الجزم بما سيكشفه التعاون الجديد بين دمشق والوكالة الذرية. لكن المؤكد أن ملف دير الزور، الذي بدا وكأنه صفحة من الماضي، عاد ليشغل الحاضر من جديد.
فالجزيئات الصغيرة من اليورانيوم التي عُثر عليها قد تكون مجرد بقايا لا معنى لها، وقد تكون أيضاً مفتاحاً لفهم واحدة من أكثر القضايا النووية غموضاً في الشرق الأوسط.
وبينما ينتظر العالم نتائج العينات الجديدة والزيارات المقبلة، يبقى السؤال معلقاً: هل كان "الـكُبر" مشروع مفاعل سري، أم مجرد مبنى عسكري أسيء تفسيره؟