لم يعد الصراع بين إسرائيل وحركة حماس محصورًا بحدود غزة، بل انتقل إلى مرحلة أكثر خطورة مع إعلان إسرائيل إدراج قادة الحركة في الخارج ضمن بنك أهداف جهاز "الموساد". وبينما أعلنت تل أبيب أن الناطق باسم كتائب القسام "أبو عبيدة" قُتل في عملية نوعية، لم تؤكد حماس الخبر بعد، ليبقى الغموض سيد الموقف، وتتصاعد الأسئلة حول أهداف هذه السياسة الجديدة وتداعياتها على الصراع الإقليمي.
معركة إعلامية قبل أن تكون ميدانية
غياب أي تأكيد رسمي من جانب حماس بشأن مصير أبو عبيدة يكشف أن ما يحدث ليس مجرد عملية ميدانية، بل معركة إعلامية ونفسية بامتياز. إسرائيل تريد أن توصل رسالة مفادها أنها قادرة على الوصول إلى أبرز رموز المقاومة حتى خارج غزة. في المقابل، يبدو أن حماس اختارت الصمت كتكتيك، لتمنع إسرائيل من تحقيق نصر معنوي سريع، وتترك الساحة مفتوحة أمام الترقب والانتظار.
سواء تأكد اغتيال أبو عبيدة أم لم يتأكد بعد، الواضح أن إسرائيل نقلت المواجهة إلى مستوى جديد. إدراج قادة حماس في الخارج ضمن بنك أهداف الموساد يعني أن الصراع دخل مرحلة حرب إقليمية مفتوحة، حيث لم تعد غزة وحدها ساحة القتال، بل أصبحت المعركة تمتد إلى كل نقطة يمكن أن تصل إليها أذرع المقاومة. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل تستطيع إسرائيل السيطرة على تداعيات هذه الحرب، أم أنها فتحت بابًا لصراع لن تستطيع إغلاقه؟
بنك أهداف عابر للحدود
بحسب موقع "نتسيف" العبري، لم يعد بنك أهداف إسرائيل مقتصرًا على غزة أو الضفة الغربية. بل توسّع ليشمل ساحات إقليمية أخرى مثل لبنان وسوريا واليمن. هذه الخطوة تعكس قناعة إسرائيلية متزايدة بأن مواجهة حماس لم تعد قضية محلية، بل ملف إقليمي واسع يتطلب ضربات في أكثر من جبهة. إعلان رئيس الأركان إيال زامير أن "معظم قادة حماس باتوا خارج غزة" يوضح بجلاء أن إسرائيل دخلت مرحلة حرب اغتيالات بلا حدود.
إعادة ترميم الردع
تضع المؤسسة الأمنية الإسرائيلية مسألة الردع في صدارة أولوياتها، خاصة بعد حرب غزة الأخيرة التي استمرت شهورًا طويلة دون أن تحقق أهدافها المعلنة، مثل إسقاط حكم حماس أو استعادة جميع الأسرى. هذا الفشل الجزئي جعل صورة الجيش الإسرائيلي أمام الداخل والخارج تهتز بشكل ملحوظ. لذلك تسعى تل أبيب اليوم إلى إثبات أن قدرتها الاستخباراتية والعسكرية لا تزال متفوقة، وأنها قادرة على الوصول إلى أي شخصية قيادية في حماس، حتى لو كانت خارج حدود القطاع. عملية اغتيال في الخارج تحمل رمزية مضاعفة: فهي ليست فقط رسالة للمقاومة الفلسطينية، بل أيضًا استعراض للقوة أمام الرأي العام الإسرائيلي الذي بدأ يشكك في جدوى العمليات العسكرية داخل غزة. ومن ثم، فإن نجاح مثل هذه العمليات يُعد بمثابة "جرعة أوكسجين" لمفهوم الردع الإسرائيلي.
إرسال رسائل إقليمية
الرسائل التي تريد إسرائيل إيصالها لا تتوقف عند حدود غزة أو حتى الساحة الفلسطينية. فاستهداف قادة حماس في لبنان أو سوريا أو ربما في اليمن يحمل مضمونًا أوضح: أن الدعم الإيراني للحركة، وكذلك المساندة التي يقدمها حزب الله أو الحوثيون، لن تمر دون ثمن. إسرائيل تحاول بهذه السياسة أن تقول لطهران بشكل غير مباشر إنها قادرة على ضرب حلفائها في أي وقت وأي مكان، دون الحاجة إلى الدخول في حرب شاملة مع إيران نفسها. كما أن هذه الاغتيالات تعني لحزب الله أن الساحة اللبنانية ليست محصنة، وأن أي محاولة لتوسيع دعمه لحماس ستعرّض قياداته أو كوادره لمصير مشابه. بعبارة أخرى، إسرائيل تريد أن تحوّل كل ساحة إقليمية داعمة لحماس إلى منطقة خطر دائم، بما يقلل من هامش المناورة أمام هذا المحور بأكمله.
توظيف داخلي
الاعتبارات السياسية الداخلية لا تقل أهمية عن الأبعاد العسكرية. رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يواجه واحدة من أعقد أزماته منذ عودته إلى الحكم: احتجاجات داخلية واسعة على خلفية خطة الإصلاح القضائي، وانقسامات متصاعدة داخل الحكومة والجيش، إضافة إلى تراجع شعبية حكومته في استطلاعات الرأي. في هذا السياق، تُصبح سياسة الاغتيالات أداة لإعادة إنتاج صورة نتنياهو كزعيم أمني قادر على حماية إسرائيل من أعدائها. فالنجاح في تصفية شخصية بارزة مثل "أبو عبيدة" يُقدَّم للجمهور الإسرائيلي كإنجاز شخصي للحكومة، وكسدٍّ أمام الانتقادات التي تتهمها بالعجز والتخبط. وبذلك تتحول العمليات الخارجية من مجرد أدوات عسكرية إلى رصيد سياسي يُستخدم في المعركة الداخلية للحفاظ على السلطة.
أهداف إسرائيل الخفية والظاهرة.. سجل طويل من سياسة الاغتيالات
سياسة الاغتيالات ليست تكتيكًا عابرًا في الاستراتيجية الإسرائيلية، بل جزء ثابت من عقيدتها الأمنية منذ عقود. فمنذ سبعينيات القرن الماضي، لجأت إسرائيل إلى استخدام الاغتيال كوسيلة لضرب خصومها السياسيين والعسكريين، في الداخل والخارج على حد سواء. وقد رأت فيها أداة مباشرة لترميم الردع وبث رسالة بأن يدها قادرة على الوصول إلى أي مكان.
محطات بارزة في تاريخ التصفيات
تعددت المحطات التي جسدت هذا النهج: ففي عام 1978، اغتيل وديع حداد، أحد مؤسسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، عبر عملية معقدة في بغداد. وفي أبريل 1988، نفذت وحدة كوماندوز إسرائيلية عملية نوعية في تونس أسفرت عن اغتيال خليل الوزير "أبو جهاد"، الرجل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية والعقل المدبر للانتفاضة الأولى. وفي يناير 2010، دوّى خبر اغتيال القيادي في حماس محمود المبحوح في دبي، في عملية حملت بصمات جهاز "الموساد" وأثارت أزمة دبلوماسية مع عدة دول أوروبية بعد الكشف عن استخدام جوازات سفر مزوّرة. هذه العمليات المتباعدة جغرافيًا وزمنيًا توضح أن إسرائيل لم تتردد يومًا في تجاوز حدودها لملاحقة خصومها.
توسّع غير مسبوق في الجغرافيا
ما يميز المرحلة الراهنة هو أن خريطة الاستهدافات لم تعد تقتصر على الساحات التقليدية مثل لبنان أو سوريا أو حتى دول عربية محورية، بل امتدت إلى مناطق نزاع شديدة الحساسية مثل اليمن. هذا التوسع يعكس إدراكًا إسرائيليًا بأن ساحة المواجهة مع حماس وحلفائها لم تعد محصورة في قطاع غزة أو الضفة الغربية، وإنما باتت شبكة إقليمية متداخلة، تمتد من الخليج إلى البحر الأحمر. وهو ما يجعل أي عملية اغتيال جديدة محمّلة بخطورة مضاعفة، نظرًا لاحتمال أن تفجّر صراعًا متعدد الأطراف، وتضع إسرائيل في مواجهة مباشرة مع قوى إقليمية فاعلة.
الاحتمالات أمام حماس
أمام حركة حماس اليوم مجموعة من السيناريوهات المتباينة، تعكس حجم الضغوط والخيارات الصعبة التي تواجهها في ضوء التطورات الأخيرة. فبين التصعيد المباشر والرد الإقليمي أو حتى التريث الاستراتيجي، يبقى المشهد مفتوحًا على احتمالات متعددة، كل منها يحمل كلفة ومخاطر مختلفة.
التصعيد من غزة
الخيار الأول يتمثل في العودة إلى الساحة التقليدية: قطاع غزة. إذ يمكن لحماس أن ترد بإطلاق رشقات صاروخية أو بتنفيذ عمليات نوعية ضد الجيش الإسرائيلي. غير أن هذا المسار بات يحمل إشكالية واضحة، إذ قد يُنظر إليه على أنه رد تقليدي لا يتناسب مع حجم الرسائل الإسرائيلية الأخيرة، خصوصًا إذا تعلق الأمر بمحاولة اغتيال شخصية بارزة مثل "أبو عبيدة". كما أن التصعيد من غزة قد يعرّض المدنيين في القطاع لموجة جديدة من العقاب الجماعي عبر قصف مكثف، ما قد يجعل الحركة أكثر حذرًا في اللجوء إلى هذا الخيار.
الرد من الخارج
الخيار الثاني يرتبط بتفعيل جبهات خارجية، سواء عبر التنسيق مع حزب الله في لبنان، أو مع مجموعات حليفة في سوريا واليمن. هذا السيناريو يحمل دلالات استراتيجية أوسع، لأنه يعني أن الرد لن يكون محصورًا في حدود غزة، بل سيتحول إلى مواجهة إقليمية متعددة الأطراف. وهو ما قد يضع إسرائيل في معادلة معقدة، تجعلها أمام خطر توسع رقعة الصراع إلى البحر الأحمر أو حتى الخليج. لكن في المقابل، فإن هذا المسار محفوف بالمخاطر لأنه قد يدفع المنطقة إلى مواجهة مفتوحة تتجاوز قدرة حماس وحلفائها على التحكم بمسارها.
الصمت المؤقت
الخيار الثالث هو التريث والصمت المؤقت، وهو تكتيك استخدمته حماس في مراحل سابقة. فبدلًا من الرد الفوري، قد تختار الحركة الانتظار لإبقاء إسرائيل في حالة قلق دائم وترقب مستمر، بينما تتحضر لرد نوعي أكثر تأثيرًا وفي توقيت تختاره بنفسها. هذا السيناريو قد يمنح الحركة مساحة لإعادة حساباتها، كما يتيح لها فرصة استثمار أي متغيرات إقليمية أو دولية لصالحها، لكنه قد يُفسر أيضًا من قبل بعض أنصارها على أنه ضعف أو تراجع.
توسيع بنك أهداف الموساد يعكس إدراكًا إسرائيليًا بأن حماس لم تعد مجرد فصيل فلسطيني، بل جزء من محور إقليمي أوسع يضم إيران وحزب الله والحوثيين. هذه النظرة تعني أن أي اغتيال في الخارج قد يُنظر إليه على أنه هجوم على هذا المحور بأكمله، مما يرفع احتمالات اندلاع مواجهة إقليمية متعددة الجبهات.
لا يمكن تجاهل التشابه بين ما تفعله إسرائيل اليوم وما قامت به الولايات المتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر. واشنطن اعتمدت سياسة الاغتيالات بالطائرات المسيّرة ضد قادة القاعدة ثم داعش، معتبرة أن الحرب ضد "الإرهاب" بلا حدود. إسرائيل تحاول اليوم استنساخ هذا النموذج، لكن التحدي أكبر: البيئة الإقليمية أكثر تعقيدًا، والأطراف المعنية أكثر تنظيمًا وصلابة.