شهدت أجهزة الاستخبارات الأميركية أزمة داخلية غير مسبوقة، بعد أن أقدمت مديرة الاستخبارات الوطنية تولسي غابارد على كشف اسم ضابط يعمل في وكالة المخابرات المركزية ضمن قائمة تضم 37 موظفاً جرى سحب تصاريحهم الأمنية. هذه الخطوة أحدثت ارتباكاً واسعاً داخل الوكالة، وأثارت مخاوف تتعلق بسلامة العمليات السرية وسمعة الجهاز.
جذور التوتر
لم يكن هذا القرار حدثاً معزولاً، بل جاء في سياق خلافات مستمرة بين غابارد ومدير وكالة المخابرات المركزية جون راتكليف. فقد سبق أن اختلف الطرفان بشأن نشر تقارير تتعلق بتدخل روسيا في الانتخابات الأميركية، الأمر الذي زاد من حدة الانقسام بين المؤسستين.
القرار الأخير كشف عن أزمة ثقة متفاقمة، إذ اعتبره كثيرون مؤشراً على صراع نفوذ داخل أجهزة الدولة، وتحديداً بين مكتب الاستخبارات الوطنية ووكالة المخابرات المركزية، خاصة أن توقيته جاء وسط حملة تطهير واسعة شملت مسؤولين اعتبروا غير موالين بشكل كاف للإدارة الأميركية.
خلفيات سياسية
تشير تحليلات إلى أن غابارد تسعى من خلال هذه الإجراءات إلى استعادة مكانتها لدى الرئيس دونالد ترامب، خصوصاً بعد أن تراجعت ثقة البيت الأبيض بها إثر تصريحات سابقة تناولت الملف النووي الإيراني. غير أن العلاقة بين الطرفين شهدت تحسناً في الآونة الأخيرة، حيث أشاد ترامب بها علناً خلال اجتماع حكومي، مؤكداً أنها تكشف “أموراً مثيرة” وتزداد بروزاً يوماً بعد يوم.
هذا التقارب فُسر على أنه ضوء أخضر لاتخاذ خطوات حادة ضد بعض مسؤولي الاستخبارات، وهو ما أقدمت عليه غابارد بدعوى تنفيذ توجيهات رئاسية لمكافحة تسييس المعلومات.
تداعيات القرار
الانتقادات لم تتأخر. فالكشف عن هوية ضابط سري لم يكن مجرد إجراء إداري، بل انعكس مباشرة على حياة الشخص المعني، خاصة أنه كان يستعد لمهمة حساسة في أوروبا، وسبق أن شارك في التحضير لقمة بين الرئيس ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين. هذا الأمر أثار قلقاً بالغاً داخل وكالة المخابرات المركزية، التي رأت أن التنسيق المسبق مع مكتبها لم يكن كافياً، وأن القرار تسبب بأضرار مباشرة لسلامة موظفيها وعملياتها.
من جانبها، دافعت غابارد عن موقفها مؤكدة أن القرار جاء بتكليف من الرئيس، وأن الهدف هو وقف محاولات بعض المسؤولين استخدام المعلومات الاستخباراتية كسلاح سياسي. كما شددت المتحدثة باسم مكتبها على أن الأسماء التي كُشف عنها لم تكن مرتبطة بمهام سرية جارية، في محاولة لاحتواء الغضب المتصاعد.
الانعكاسات على الجهاز الأمني
هذا الخلاف العلني سلط الضوء على هشاشة العلاقة بين مؤسسات الاستخبارات الأميركية، وأظهر التحديات التي تواجهها في مرحلة سياسية شديدة الاستقطاب. فبينما تتمسك وكالة المخابرات المركزية بدورها التقليدي في حماية الأمن القومي بعيداً عن التجاذبات الحزبية، يرى مكتب الاستخبارات الوطنية ضرورة إعادة هيكلة الجهاز ومحاسبة من يشتبه في عدم ولائهم الكامل للإدارة.
النتيجة المباشرة كانت خلق حالة من الإرباك بين صفوف الضباط والموظفين الذين شعروا بأن مستقبلهم الوظيفي قد يتحدد بناءً على اعتبارات سياسية أكثر من كونه مبنياً على كفاءتهم ومهامهم.
مستقبل غامض
رغم محاولات التهدئة، يبقى السؤال المطروح: إلى أي مدى يمكن أن يؤثر هذا الصراع على فعالية الاستخبارات الأميركية في مواجهة التحديات الخارجية؟ فبين التوترات الداخلية والضغوط السياسية، تبدو الأجهزة الأمنية أمام اختبار صعب للحفاظ على تماسكها وسمعتها العالمية.
الكثير من المراقبين يرون أن ما حدث ليس مجرد خطأ إداري، بل علامة على أزمة أعمق تعكس التداخل بين الأمن والسياسة في الولايات المتحدة. فإذا استمرت هذه النهج، قد تجد البلاد نفسها أمام جهاز استخباراتي مثقل بالخلافات الداخلية، ما قد يضعف قدرته على مواجهة المخاطر الدولية.