لم يكن إعلان وزارة الخارجية الأميركية رفض أو سحب التأشيرات عن محمود عباس وعشرات من كبار مسؤولي السلطة الفلسطينية مجرد خبر عابر. فهو قرار يكسر عرفًا دبلوماسيًا رسخ لعقود، حيث درجت الولايات المتحدة، بصفتها الدولة المضيفة لمقر الأمم المتحدة، على توفير تسهيلات ولو بحدها الأدنى لجميع الوفود، حتى الأكثر خصومة. وهنا لا يتعلق الأمر ببروتوكول سفر، بل بتعطيل مقصود لأداة دبلوماسية أساسية للفلسطينيين، وهي مخاطبة العالم من منبر الأمم المتحدة.
ليست هذه المرة الأولى التي تُستخدم فيها الأراضي الأميركية كسلاح سياسي ضد الفلسطينيين. ففي عام 1988، رفضت واشنطن منح تأشيرة لزعيم منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك ياسر عرفات لحضور جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة، بذريعة “الإرهاب”. هذا الموقف أثار أزمة دبلوماسية حادة، انتهت بعقد الجلسة الاستثنائية في جنيف، حيث ألقى عرفات خطابه الشهير معلنًا القبول بحل الدولتين وقرارات الشرعية الدولية. تلك اللحظة مثّلت انعطافًا كبيرًا في مسار منظمة التحرير، وفتحت الطريق لاحقًا إلى مفاوضات أوسلو عام 1993.
منذ عرفات وحتى عباس، ظل حضور الفلسطينيين في الأمم المتحدة رهينة الإرادة الأميركية. وبينما كان حلم الدولة حاضراً كأفق سياسي في الثمانينات والتسعينات، فإن المشهد الحالي يبدو أكثر قتامة: استيطان يتمدد، سلطة مقيدة، مقاومة تتصاعد، وعالم ينقسم بين أوروبا الباحثة عن الاعتراف وواشنطن الغارقة في انحيازها لإسرائيل. السؤال المفتوح الآن: هل يعيد الفلسطينيون تكرار تجربة جنيف 1988 بطريقة جديدة، أم أن المنع الأميركي سيكون بداية فصل أعمق من العزلة الدبلوماسية؟
أوسلو وتقييد الحلم الفلسطيني
اتفاق أوسلو جاء كترجمة مباشرة لذلك التحول، لكنه سرعان ما تحول إلى قيد على المشروع الوطني. فقد أعطى الفلسطينيين اعترافًا محدودًا بالسلطة على أجزاء من الضفة وغزة، دون سيادة حقيقية أو سيطرة على الحدود والموارد. ومع استمرار الاستيطان الإسرائيلي، وجد الفلسطينيون أنفسهم أمام كيان إداري منزوع الصلاحيات، فيما استمرت الولايات المتحدة في لعب دور “الوسيط المنحاز”.
وفي نوفمبر 2012، حقق الفلسطينيون اختراقًا مهمًا بحصولهم على صفة “دولة مراقب غير عضو” في الأمم المتحدة، بأغلبية 138 دولة. ذلك القرار أعطى السلطة حق الانضمام إلى منظمات ومعاهدات دولية، بينها محكمة الجنايات الدولية. لكن واشنطن وتل أبيب اعتبرتا هذه الخطوة “أحادية” وعملا استفزازيًا، فردّت إسرائيل بتجميد عائدات الضرائب، فيما هددت واشنطن بقطع المساعدات.
اليوم، ومع حرب غزة المستمرة وتصاعد الضغوط الدولية على إسرائيل، حاولت القيادة الفلسطينية استثمار اللحظة لإعادة طرح قضية الدولة من جديد على منبر الأمم المتحدة. غير أن منع عباس من دخول نيويورك يذكّر الفلسطينيين بدرس 1988: كلما حاولوا استخدام المنبر الأممي، اصطدموا بجدار الرفض الأميركي. الفرق أن عرفات حوّل المنع إلى منصة دولية بديلة في جنيف، بينما يجد عباس نفسه أمام مأزق مضاعف، في ظل تراجع مكانته الداخلية وتآكل الشرعية الشعبية لسلطته.
قرار المنع لا يمكن قراءته بمعزل عن حسابات داخلية أميركية، فالإدارة الحالية تواجه ضغوطًا انتخابية وإعلامية من قوى سياسية ترى أي انفتاح على الفلسطينيين تنازلًا أمام "الإرهاب" أو "التحريض". وفي الوقت ذاته، هناك حسابات خارجية: واشنطن بعثت برسالة إلى الأوروبيين الذين يدرسون الاعتراف بدولة فلسطين مفادها أن أي محاولة لتجاوز الدور الأميركي في الملف الفلسطيني ستواجَه بالتصعيد والعرقلة. بهذا المعنى، يصبح القرار ورقة مزدوجة: طمأنة للداخل الأميركي، وردع للفاعلين الدوليين الآخرين.
السلطة الفلسطينية، التي لطالما اعتبرت خطاب الجمعية العامة للأمم المتحدة مساحة لتعويض عجزها الميداني والسياسي، تجد نفسها اليوم أمام ضربة مباشرة لقدرتها على الظهور الدولي. غياب عباس عن المنبر قد يُترجم داخليًا كدليل ضعف، ويمنح خصومه من فصائل المقاومة مادة دسمة للتشكيك بجدوى "الخيار الدبلوماسي". بل إن بعض الأصوات في الداخل قد ترى في القرار الأميركي دعوة غير مباشرة لإعادة النظر في كل منظومة أوسلو التي ربطت السلطة بشبكة مصالح مشتركة مع واشنطن.
الأمم المتحدة بين الحرج والاختبار
المنع يضع الأمم المتحدة نفسها في موقف شديد الحساسية. فهي أمام اختبار لمبدأ الحياد والتمثيل الشامل، إذ إن اتفاقية مقر الأمم المتحدة تُلزم الدولة المضيفة بمنح حق الدخول للوفود الرسمية. وفي حال لم تتحرك المنظمة للدفاع عن هذا المبدأ، فإنها تعطي سابقة خطيرة يمكن أن تُستخدم ضد وفود أخرى مستقبلًا. من هنا، القضية تتجاوز فلسطين لتصبح اختبارًا لمنظومة العمل المتعدد الأطراف بأسرها: هل تملك الأمم المتحدة القدرة على إلزام الولايات المتحدة بواجباتها، أم أن الأمر سيتحوّل إلى سابقة تطعن في استقلالية المنظمة؟
أوروبا والفرصة الضائعة
بالنسبة للعواصم الأوروبية، جاء القرار الأميركي بمثابة تعطيل متعمّد لجهودها. كانت بعض الدول تستعد لخطوات رمزية أو ملموسة للاعتراف بدولة فلسطين أو على الأقل الدفع بقرارات داعمة داخل الجمعية العامة. وجود عباس ووفده كان سيمثّل عنصر شرعية لهذه التحركات. أما غيابه فيُربك هذه الخطط، ويدفع الأوروبيين إلى مواجهة مباشرة مع السؤال: هل يستمرون في مسار الاعتراف رغم الاعتراض الأميركي، أم يتراجعون تحت وطأة الهيمنة الأميركية على المنابر الدولية؟
القرار الأميركي ليس تفصيلًا إجرائيًا بل معركة على الشرعية الدولية للفلسطينيين. واشنطن تحاول إعادة رسم حدود الممكن في الساحة الأممية، بحيث لا يُسمح للفلسطينيين باستخدام المنابر الدولية بما يتجاوز الخطوط الحمراء الإسرائيلية. لكن هذه الخطوة قد تنقلب ضدها، إذ تدفع الأطراف الأخرى إلى التشكيك في نزاهة دورها المضيف، وتفتح بابًا واسعًا أمام الفلسطينيين للبحث عن تحالفات بديلة. السؤال الذي يطرح نفسه: هل ستبقى الأمم المتحدة رهينة إرادة الدولة المضيفة، أم أن الأزمة الحالية ستدفعها للبحث عن صيغة أكثر استقلالية؟