أدخل القرار الحكومي الأخير بشأن حصر السلاح بيد الدولة، المؤسسة العسكرية في قلب معادلة معقدة وحساسة. فقد رمت السلطة السياسية كرة النار في ملعب قيادة الجيش، في وقت يشهد فيه لبنان توترات متصاعدة مرتبطة بالعدوان الإسرائيلي المستمر والاحتلال القائم، إضافة إلى الضغوط الخارجية المتزايدة حول ملف سلاح حزب الله.
القرار بدا وكأنه محاولة لنقل مسؤولية التنفيذ إلى الجيش، بما قد يضعه في مواجهة مباشرة مع المقاومة وجمهورها. وهو سيناريو ترفضه القيادة العسكرية رفضاً قاطعاً، لأنه يهدد السلم الأهلي من جهة، ويعرّض تماسك المؤسسة العسكرية نفسها للاهتزاز من جهة ثانية.
بين الضغوط والإغراءات
الجيش لم يكن يوماً بعيداً عن التجاذبات الخارجية. واشنطن وعدة عواصم أوروبية لا تكتفي بتقديم الدعم المالي واللوجستي للمؤسسة العسكرية، بل تلوّح أيضاً بزيادته إذا انخرط الجيش في تنفيذ الإملاءات الدولية المتعلقة بالسلاح. في المقابل، يواجه الجيش ضغوطاً داخلية تحاول تحميله مسؤولية مواجهة سلاح المقاومة، وهو ما يضعه بين فكي كماشة: ضغوط سياسية داخلية وإغراءات خارجية مشروطة.
في مطلع العام، خصص الاتحاد الأوروبي أكثر من 80 مليون يورو لدعم الجيش وتعزيز انتشاره في الجنوب وفق قرار مجلس الأمن 1701. أما قطر، فبعد أن دعمت الجيش غذائياً إثر الانهيار الاقتصادي عام 2019، تحولت منذ 2022 إلى تقديم منح مالية مباشرة ومساعدات عسكرية، كان آخرها 60 مليون دولار لدفع رواتب الضباط. هذه المساعدات، التي تُقدَّم تحت عنوان دعم المؤسسة، يقرأها البعض كوسيلة لفرض أولويات الخارج على القرار الوطني.
الجيش يرفض المواجهة الداخلية
مصادر عسكرية تؤكد أن المؤسسة العسكرية لا تنوي الانجرار إلى أي صدام مع حزب الله أو مع البيئة التي تحتضنه. فالقوات المنتشرة في الجنوب تعيش في قلب هذه البيئة، ومعظم جنودها وضباطها أبناء الأرض نفسها. القيادة حريصة على عدم الانقسام الداخلي، وتدرك أن أي اندفاع في هذا الاتجاه سيضرب تماسكها الذي حافظت عليه خلال الأزمات المتعاقبة.
وتشير مصادر سياسية مطلعة إلى أن الانقسام داخل الجيش في حال حصول مواجهة كهذه سيكون خطيراً، إذ من غير الممكن أن يوجّه العسكري سلاحه ضد ابن بلدته أو أحد أفراد عائلته. لذلك، ترى هذه المصادر أن أي محاولة لدفع الجيش نحو المواجهة مع الشعب أو المقاومة ستكون بمثابة انتحار للمؤسسة وللدولة.
المواقف الدولية والضغوط المتزايدة
في كواليس المفاوضات الأخيرة، كشف أن وفداً أميركياً أبلغ المسؤولين اللبنانيين بأن واشنطن مستعدة لتقديم دعم استخباراتي للجيش، وصولاً إلى مشاركة إسرائيلية عبر مسيّرات لتحديد مواقع المقاومة. الطرح أثار صدمة لدى القيادات العسكرية، ودفع قائد الجيش العماد رودولف هيكل إلى التلميح باستعداده لتقديم استقالته إذا كان مطلوباً من الجيش سفك دماء لبنانيين.
وتتحدث المعلومات عن خطة أميركية تقوم على «القضم التدريجي»: فصل المناطق الشيعية عن غيرها، ثم فرض انتشار أمني في المناطق المختلطة، قبل التقدم نحو بيروت والضاحية، ومن ثم البقاع والجنوب. هذه الخطة، المدعومة بضغط سعودي متوازٍ، تهدف إلى فرض الأمر الواقع بسرعة خشية أن تتغير الظروف الإقليمية في غير صالحها.
الموقف الشيعي
مصادر مقربة من الثنائي الشيعي أكدت أن أي سيناريو يضع الجيش في مواجهة مع المقاومة مرفوض كلياً، لأن الجيش يمثل عنصر توازن وطني لا يجوز الزج به في صراع داخلي. وتشدد هذه المصادر على أن أي محاولة لاستئصال المقاومة ستعني عملياً ضرب آخر ما تبقى من مؤسسات الدولة الجامعة.
في المقابل، يواصل حزب الله التمسك بخيار الحوار لمعالجة ملف السلاح، محذراً من أن أي رهان على الجيش لفرض معادلات خارجية هو رهان خاسر. الحزب يدعو إلى التهدئة قبل جلسة أيلول المقبلة، حيث يُفترض أن تحدد ملامح المرحلة التالية.
المؤسسة العسكرية بين القرار والواقع
خلال اجتماع استثنائي في اليرزة، شدد العماد هيكل على أن الجيش يتحمل مسؤوليات كبرى في مرحلة دقيقة، لكنه ملتزم بالحفاظ على الاستقرار الداخلي والسلم الأهلي. وأوضح أن المؤسسة قدمت تضحيات جسيمة، ولن تسمح بأن تتحول إلى أداة في مشروع يقسم الداخل أو يمس بوحدته.
بالموازاة، يدرك الجيش أن القرار الحكومي بوضع خطة لنزع السلاح غير قابل للتنفيذ في الظروف الراهنة، ليس فقط بسبب موقف المقاومة، بل أيضاً بسبب استمرار الاحتلال الإسرائيلي وغياب أي ضمانات دولية. لذلك، يرى كثيرون أن القرار في حكم المجمّد، حتى لو حاولت الحكومة السير به تحت ضغط أميركي أو رغبة بعض القوى الداخلية.
المعادلة اليوم واضحة: الجيش يرفض أن يكون أداة مواجهة داخلية، والمقاومة متمسكة بالحوار، فيما الخارج يمارس أقصى الضغوط لفرض مشروعه. البلد يقف عند مفترق طرق خطير، حيث أي خطوة متهورة قد تعني انهيار التوازن الهش.
بين القرار والواقع، يبقى السؤال: هل تذهب السلطة إلى التصعيد والمغامرة، أم تعود إلى طاولة الحوار قبل أن يفلت زمام الأمور؟