حزام أمني بنكهة سورية.. هل يتكرر نموذج جنوب لبنان؟

أماني إبراهيم/ وكالة أنباء آسيا

2025.08.30 - 09:31
Facebook Share
طباعة

فجر السبت 30 أغسطس 2025، تحركت عشرات الآليات الإسرائيلية المحملة بالجنود نحو قرية العشة بريف القنيطرة جنوب سوريا، في عملية برية نادرة حملت بصمتها السياسية والأمنية في آنٍ واحد. القوات اقتحمت منازل ومواقع، أجرت عمليات تفتيش دقيقة، قبل أن تعود أدراجها إلى داخل الجولان المحتل.


سبق ذلك بيوم واحد مداهمة إسرائيلية في قرية الصمدانية الشرقية، حيث داهمت القوات أحد المنازل وصادرت محتوياته، في وقت كان الطيران الإسرائيلي يحلّق بكثافة فوق أجواء القنيطرة ودرعا. هذه التحركات المتتالية لم تكن مجرد غارة روتينية، بل جاءت كجزء من تصعيد نوعي يعكس انتقال إسرائيل من مرحلة "المراقبة والردع الجوي" إلى التدخل البري المباشر.

 

التوغلات الإسرائيلية في القنيطرة لم تعد مجرد مناورات عسكرية عابرة، بل هي مؤشر على مشروع استراتيجي متكامل يهدف إلى إعادة تشكيل الجنوب السوري وفق الرؤية الإسرائيلية.


إسرائيل تحاول أن تفرض منطقة أمنية ـ سياسية على حساب السيادة السورية، في ظل صمت دولي وعجز إقليمي. ومع تكرار المشهد، يبدو أننا أمام سيناريو "جنوب لبنان" جديد، ولكن هذه المرة بملامح سورية، حيث يتقاطع البعد الأمني مع مشروع تقسيمي طويل الأمد.

من الناحية الرسمية، يبرر الجيش الإسرائيلي تحركاته بأنها "عمليات استباقية" تستهدف خلايا مسلحة ونقاط يُشتبه بارتباطها بإيران أو حزب الله. بيانات الجيش تتحدث عن العثور على وسائل قتالية واعتقال عناصر متورطة، لكن المراقبين يقرؤون هذه الذرائع في سياق أوسع: إسرائيل تعمل على ترسيخ وجود أمني ولو بشكل متقطع داخل الأراضي السورية، بهدف خلق "حزام وقائي" يمنع أي نشاط مسلح على مقربة من حدودها.

بعبارة أخرى، ما تصفه إسرائيل بــ"التوغلات المحدودة" يندرج في إطار إعادة هندسة الحدود مع سوريا، بحيث تتحول إلى منطقة أمنية خاضعة لسيطرتها الميدانية ولو من وراء الستار.


مشروع "المنطقة المنزوعة السلاح

التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول إقامة منطقة منزوعة السلاح في الجنوب السوري، تمتد لتشمل محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية، تمثل إشارة واضحة إلى وجود مشروع سياسي طويل الأمد.


إسرائيل لا تكتفي بالدفاع العسكري، بل تسعى لفرض ترتيبات أمنية ـ سياسية جديدة على غرار ما فعلته في جنوب لبنان بين 1985 و2000 عبر ميليشيا "جيش لحد". هنا يبرز سؤال جوهري: هل تسعى تل أبيب إلى إنشاء كيان عازل داخل الأراضي السورية يمنع وصول النفوذ الإيراني، ويؤسس لوضع قائم طويل المدى، يكرّس واقع الاحتلال في الجولان ويمتد شرقه وجنوبه؟

 

رسائل متعددة الاتجاهات

دمشق – منع استعادة السيادة جنوباً

بالنسبة للنظام السوري، تحمل التوغلات الإسرائيلية رسالة شديدة الوضوح: أي محاولة لإعادة بناء حضور عسكري قرب خط الجولان ستُقابل برد مباشر. دمشق، التي تسعى منذ عام 2018 لإعادة فرض سيطرتها الإدارية والأمنية على الجنوب بمساعدة روسية، تجد نفسها أمام معادلة جديدة مفروضة بالقوة: السيادة السورية على القنيطرة ودرعا مشروطة بإرادة تل أبيب. هذا يعني أن النظام، رغم استعادته الشكلية لبعض المناطق، لا يستطيع فعلياً تحريك قوات أو نشر سلاح ثقيل في الجنوب دون أن يضع في حساباته رد فعل إسرائيلي فوري. وهنا يتضح أن إسرائيل لا تكتفي بمراقبة الحدود، بل تعمل على إعادة صياغة قواعد السيادة السورية نفسها.


طهران – استمرار معركة الاستنزاف

أما إيران، فهي المتلقي الأبرز للتحركات الأخيرة. فمنذ سنوات، تسعى طهران إلى بناء بنية عسكرية موازية في سوريا عبر الحرس الثوري وحزب الله والفصائل الموالية لها، مستفيدة من حاجة النظام السوري للدعم العسكري والاقتصادي. لكن إسرائيل تواصل تطبيق عقيدة "المعركة بين الحروب"، أي شن ضربات استباقية متكررة تمنع خصومها من تثبيت قواعد دائمة قرب حدودها. الرسالة واضحة: أي تموضع إيراني في الجنوب لن يُسمح له بالتحول إلى واقع مستقر. بل إن التوغلات البرية الأخيرة توحي بأن تل أبيب باتت مستعدة لقطع الطريق على طهران حتى داخل القرى السورية نفسها، وليس فقط عبر ضربات جوية بعيدة المدى.


موسكو – تراجع الدور الروسي

بالنسبة لروسيا، التي لعبت منذ 2015 دور الضامن غير المباشر لأمن الجنوب السوري، فإن إسرائيل توجه رسالة صامتة لكنها حاسمة: زمن التنسيق مع موسكو لم يعد كما كان. فمع انشغال الكرملين بالحرب الأوكرانية وتراجع حضوره العسكري والاقتصادي في سوريا، وجدت تل أبيب أن الفراغ يسمح لها بفرض معادلات جديدة على الأرض دون الحاجة إلى مشاورات مع موسكو. هذه التحركات تُضعف صورة روسيا كقوة مهيمنة في سوريا، وتظهرها كعاجزة عن حماية حتى المناطق التي كانت تحت وصايتها المباشرة.


واشنطن – انسجام استراتيجي غير معلن

أما واشنطن، فالمعادلة مختلفة. إسرائيل تراهن على أن الولايات المتحدة تمنحها غطاءً غير معلن لتحركاتها في الجنوب السوري، خصوصًا أن واشنطن تشارك تل أبيب المخاوف نفسها من التمدد الإيراني. الرسالة هنا مزدوجة: أولاً، أن إسرائيل قادرة على التحرك منفردة إذا لزم الأمر؛ وثانياً، أن هذه العمليات تنسجم مع الاستراتيجية الأميركية الأشمل القائمة على احتواء إيران وتفكيك نفوذها الإقليمي. لذلك يمكن القول إن إسرائيل لا تتحرك في فراغ، بل ضمن إطار تنسيق غير مباشر مع واشنطن، يسمح لها باستخدام الجنوب السوري كورقة ضغط إضافية في صراع النفوذ الإقليمي.


دلالات التوقيت

أولاً: تراجع الدولة السورية وفقدان السيطرة الفعلية

النظام السوري، رغم استعادته الشكلية لجنوب البلاد عام 2018 بفضل التدخل الروسي، ما زال عاجزًا عن بسط نفوذه الكامل إداريًا وعسكريًا على القنيطرة ودرعا. مؤسسات الدولة ضعيفة، والانتشار العسكري محدود، فيما تنشط خلايا محلية متقلبة الولاءات. هذا الفراغ يمنح إسرائيل نافذة ذهبية للتوغل وتنفيذ عمليات خاطفة دون مواجهة رد جدي من القوات السورية. بكلمات أخرى، تل أبيب تستثمر الهشاشة السورية الداخلية لتكريس معادلات أمنية جديدة على الأرض.

ثانياً: الاضطراب الإقليمي وتصاعد المواجهة مع محور المقاومة

التحركات الإسرائيلية تأتي في لحظة حساسة من الصراع الإقليمي. ففي الأسابيع الأخيرة تعرضت مواقع إيرانية ومخازن أسلحة قرب دمشق لسلسلة ضربات جوية، ما رفع مستوى التوتر بين إسرائيل ومحور المقاومة بقيادة طهران وحزب الله. التوغلات البرية في القنيطرة تُقرأ هنا كجزء من استراتيجية تصعيد تدريجي، هدفها ليس فقط استهداف مخازن أو مواقع، بل أيضًا إرسال رسالة ردع استباقية إلى إيران وحلفائها: أي محاولة لفتح جبهة جنوب سوريا ستُقابل بتدخل مباشر وسريع على الأرض.

ثالثاً: انشغال روسيا وتراجع حضورها في سوريا

روسيا، التي لعبت دور الضامن منذ 2015 لخطوط التماس في الجنوب السوري، تراجعت مكانتها بشكل كبير بسبب انشغالها العسكري والسياسي في حرب أوكرانيا. هذا الانشغال ترك فراغًا في موازين القوى الميدانية، وفتح الباب أمام إسرائيل لتتحرك بحرية أكبر. غياب التنسيق الروسي الفاعل أو رغبة موسكو في تجنب المواجهة المباشرة مع تل أبيب، منح إسرائيل مساحة واسعة للمناورة، خصوصًا أن الكرملين أصبح أقل قدرة على ضبط الميدان السوري كما كان قبل سنوات قليلة.

رابعاً: إشارة ردع استباقية – تحذير من جبهة جديدة

إلى جانب الأبعاد الإقليمية، تحمل هذه العمليات رسالة ردع واضحة: إسرائيل لا تنتظر أن تتشكل جبهة جديدة ضدها في الجنوب، بل تتحرك استباقيًا لإجهاض أي محاولة لذلك. التوغلات البرية ومداهمة المنازل ليست مجرد نشاط أمني، بل هي إظهار للقوة في الميدان يهدف إلى طمأنة الداخل الإسرائيلي من جهة، وتخويف الخصوم من جهة أخرى. إنها رسالة بأن تل أبيب سترد بحزم على أي محاولة لتحويل الجنوب السوري إلى ساحة مواجهة مشابهة لجبهة لبنان.

 

السيناريوهات المحتملة

السيناريو الأول: ترسيخ حزام أمني جديد

أحد أبرز السيناريوهات المطروحة يتمثل في أن استمرار التوغلات الإسرائيلية جنوب سوريا قد يقود تدريجيًا إلى إقامة حزام أمني غير معلن على طول الشريط الحدودي مع الجولان. هذا الحزام قد يبدأ بعمليات مداهمة متكررة ووجود عسكري مؤقت، ثم يتطور مع الوقت إلى تمركز دائم في بعض القرى والمواقع الاستراتيجية. تجربة إسرائيل السابقة في جنوب لبنان عبر "جيش لحد" تقدم نموذجًا قريبًا؛ حيث بدأت العمليات بتوغلات محدودة ثم تحولت إلى منطقة أمنية معزولة عن الدولة المركزية. وإذا تحقق هذا السيناريو، فإن الجنوب السوري سيواجه خطرًا حقيقيًا يتمثل في إعادة إنتاج نموذج الاحتلال غير المباشر.

السيناريو الثاني: تصعيد تدريجي ومواجهة أوسع

في حال قررت دمشق أو طهران الرد على التوغلات، ولو بشكل محدود، فإن احتمالية التصعيد ستصبح عالية. أي استهداف مباشر للقوات الإسرائيلية من داخل سوريا قد يفتح الباب أمام مواجهات عسكرية أكثر عنفًا، وربما انتقال العمليات من الجنوب إلى العمق السوري. هذا السيناريو سيؤدي إلى إعادة رسم قواعد الاشتباك التي ظلت قائمة منذ اتفاق 1974، ما يعني أن المنطقة قد تدخل في مرحلة من عدم الاستقرار تشبه الوضع القائم على الحدود اللبنانية. إلا أن هذا الاحتمال يظل مرهونًا بقرار إيراني ـ سوري محفوف بالمخاطر، إذ أن فتح جبهة الجنوب سيضعف دمشق ويستنزف طهران في وقت تعاني فيه من ضغوط إقليمية ودولية متزايدة.

السيناريو الثالث: صفقة إقليمية ضمنية

من زاوية أخرى، ثمة تقديرات ترى أن التوغلات الإسرائيلية لا تتم في فراغ، بل قد تكون جزءًا من تفاهمات إقليمية غير معلنة. فالصمت الروسي الواضح، مقابل الانشغال بأوكرانيا، قد يُفسَّر على أنه قبول ضمني بترتيبات جديدة في الجنوب السوري لا تهدد مصالح موسكو مباشرة. في الوقت ذاته، يُرجح أن التحركات الإسرائيلية تحظى بضوء أخضر أميركي، خاصة وأنها تتوافق مع الاستراتيجية الأميركية الرامية إلى كبح النفوذ الإيراني في سوريا. إذا صح هذا السيناريو، فنحن أمام إعادة توزيع للأدوار والنفوذ في سوريا، حيث تتولى إسرائيل مهمة ضبط الحدود الجنوبية بغطاء غربي وصمت روسي.

 

من هدنة مضبوطة إلى فوضى مسلّحة: تحولات الجنوب السوري خلال نصف قرن


وبعد اندلاع حرب أكتوبر 1973 التي تمكنت خلالها القوات السورية من تحرير أجزاء واسعة من الجولان المحتل قبل أن تعود إسرائيل وتستعيد زمام المبادرة، دخل الطرفان في مفاوضات شاقة برعاية الأمم المتحدة. وفي عام 1974 تم توقيع اتفاق فض الاشتباك الذي أسس لواقع جديد: خط فصل مراقَب من قوات الطوارئ الدولية (أندوف)، ومنطقة عازلة منزوعة السلاح تمتد على طول خط التماس. هذا الاتفاق كان بمثابة هدنة مفتوحة حافظت على هدوء الحدود لأكثر من ثلاثة عقود، رغم العداء السياسي والعسكري المستمر بين دمشق وتل أبيب.

مرحلة الجمود (1974–2011)

منذ منتصف السبعينيات وحتى اندلاع الأزمة السورية عام 2011، عاشت منطقة الجولان والقنيطرة حالة من الجمود العسكري. لم تُسجَّل سوى مناوشات محدودة أو تبادل نيران متقطع، وظلّت الحدود الجنوبية لسوريا جبهة "ساكنة"، مقارنة بجبهات لبنان أو فلسطين. خلال هذه الفترة ركزت دمشق على المقاومة السياسية والدبلوماسية لاستعادة الجولان، بينما تمسكت إسرائيل بفرض الأمر الواقع وتعزيز الاستيطان في الهضبة المحتلة.

انهيار المعادلة مع اندلاع الأزمة السورية (2011)

مع انفجار الصراع السوري الداخلي عام 2011، تبدل المشهد بالكامل. انسحب الجيش السوري تدريجيًا من مناطق واسعة في الجنوب ليتفرغ لجبهات القتال الداخلية، ما فتح المجال أمام فصائل مسلحة معارضة – بعضها مرتبط بالغرب والخليج – للتمدد في ريف درعا والقنيطرة. هذا الفراغ الأمني حوّل المنطقة إلى ساحة صراع مفتوحة، سمحت بظهور نفوذ إيراني ـ عبر الحرس الثوري وحزب الله – في نقاط قريبة جدًا من خط وقف إطلاق النار مع إسرائيل.

التدخل الإسرائيلي المبكر (2013–2018)

إسرائيل تعاملت مع هذا الوضع باعتباره تهديدًا مباشرًا. منذ 2013 بدأت حملة جوية مكثفة استهدفت قوافل الأسلحة المتجهة إلى حزب الله، ومراكز تدريب ومخازن إيرانية داخل الأراضي السورية. كانت هذه الغارات جزءًا من استراتيجية أوسع أطلقت عليها تل أبيب اسم "المعركة بين الحروب"، وهدفها تقويض التموضع الإيراني دون الانجرار إلى حرب شاملة. في هذه المرحلة، ورغم كثافة الضربات الجوية، تجنبت إسرائيل التوغل البري، مكتفية بالمراقبة عبر الطائرات المسيّرة والعمل الاستخباراتي.

عودة الجيش السوري والاتفاقات الضمنية (2018–2020)

مع استعادة الجيش السوري لجنوب البلاد عام 2018 بدعم روسي، دخلت إسرائيل وروسيا في تفاهمات غير معلنة تنص على إبعاد القوات الإيرانية لمسافة محددة عن خط الجولان، مقابل تجنّب تل أبيب التصعيد المباشر مع دمشق. قوات "أندوف" عادت إلى مواقعها، لكن الهدوء ظل هشًا. إسرائيل واصلت استهدافها للوجود الإيراني، فيما حاول النظام السوري إعادة فرض سيطرته الإدارية على المنطقة، دون أن ينجح في استعادة كامل قراره السيادي.

من الغارات الجوية إلى التوغلات البرية (2021–2025)

ابتداءً من 2021، ومع تراجع النفوذ الروسي بسبب انشغاله بأوكرانيا، رأت إسرائيل أن الفرصة سانحة لتوسيع نطاق عملياتها. الغارات الجوية استمرت بوتيرة شبه أسبوعية، لكنها لم تعد كافية بالنسبة لصناع القرار في تل أبيب. وهكذا بدأنا نرى تحولات ميدانية نوعية: عمليات إنزال خاصة قرب دمشق، مداهمات برية محدودة في ريف القنيطرة، وتوغلات مصغرة تتبعها انسحابات سريعة.


هذا التطور يعكس انتقال إسرائيل من مرحلة "الردع عن بعد" إلى مرحلة رسم الخرائط على الأرض، بما يشبه بدايات مشروع "الحزام الأمني" الذي طبقته في جنوب لبنان أواخر السبعينيات قبل أن يتحول إلى احتلال واسع النطاق.

 

على مدى نصف قرن، انتقل الجنوب السوري من هدنة مضبوطة إلى فوضى مسلحة، ومن غارات جوية محدودة إلى توغلات عسكرية مباشرة. وإذا استمر هذا المنحى، فإن ما نشهده اليوم قد لا يكون مجرد عمليات أمنية مؤقتة، بل مقدمة لإعادة إنتاج سيناريو جنوب لبنان، ولكن هذه المرة في القنيطرة والجنوب السوري.

 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 3 + 3