بريطانيا تُحاصر نتنياهو: لا أمن بلا دولة فلسطينية

– وكالة أنباء آسيا

2025.08.30 - 08:52
Facebook Share
طباعة

في لحظة سياسية فارقة، خرج السفير البريطاني لدى إسرائيل سايمون وولترز بمقال رأي في الموقع العبري «واللا» ليطرح مقولة صادمة للمجتمع الإسرائيلي: إقامة دولة فلسطينية لم تعد تهديدًا وجوديًا، بل ضمانة استراتيجية لأمن إسرائيل ذاته. المقالة جاءت بعد أيام قليلة من إعلان رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر نيّة بلاده الاعتراف بفلسطين في سبتمبر، وهو إعلان أحدث جدلاً واسعًا داخل إسرائيل، وأعاد فتح ملف «حل الدولتين» بوصفه أداة ضغط غربية جديدة. وبينما كانت تل أبيب تستعد لتوسيع عملياتها في مدينة غزة، وجدت نفسها أمام خطاب بريطاني يربط بين وقف الحرب، وإطلاق سراح الرهائن، والشروع في تسوية سياسية شاملة.

 

من الصدمة الإسرائيلية إلى خطاب الضمانات

يربط وولترز تحليله بما سماه «الصدمة المجتمعية» التي أحدثها هجوم 7 أكتوبر. لكنه لم يكتفِ بالتعاطف، بل قدّم مقاربة مغايرة: استمرار الاحتلال يفتح الطريق لدورات متكررة من العنف، بينما الدولة الفلسطينية – إذا وُلدت عبر مفاوضات وتحت ضمانات أمنية – تُشكل بيئة أكثر استقرارًا من الوضع الراهن. في رؤيته، الدولة الفلسطينية لا تعني «كيانًا مسلحًا على حدود إسرائيل»، بل كيانًا منزوع السلاح، خاضعًا لترتيبات أمنية دولية، يتيح للإسرائيليين شعورًا بالأمان أكبر من إدارة ملايين الفلسطينيين تحت حكم عسكري يومي.

 

ستارمر: الاعتراف كورقة ضغط لا جائزة

إعلان ستارمر أن لندن قد تعترف بفلسطين في سبتمبر مثّل انقلابًا على السياسة الغربية التقليدية التي كانت تؤجل الاعتراف إلى ما بعد التسوية. الاعتراف الآن ليس «مكافأة» بل «أداة ضغط» لجرّ الطرفين إلى طاولة المفاوضات. بهذا المعنى، بريطانيا لا تكتفي بالخطاب، بل تربط أوراقها الدبلوماسية بالملف الفلسطيني بشكل مباشر. وفي موازاة ذلك، منعت الحكومة البريطانية مسؤولين إسرائيليين من المشاركة الرسمية في معرض السلاح الدولي بلندن (DSEI)، وهو ما مثّل صفعة علنية لمؤسسة الأمن الإسرائيلية، ورسالة مفادها أن استمرار الحرب لن يمر بلا ثمن سياسي واقتصادي.

 


الغطاء العربي: فرصة نادرة أم فخّ جديد؟

التحرك البريطاني لم يأتِ في فراغ. فقبل أسابيع قليلة، صاغت 22 دولة عربية إعلانًا يدعو إلى نزع سلاح «حماس» وتمكين السلطة الفلسطينية من حكم غزة. ورغم ما يحمله النص من إشكالات للفلسطينيين، فإنه يوفر للغرب ذريعة سياسية: هناك «شريك عربي» مستعد للانتقال نحو الدولة الفلسطينية. لندن التقطت هذه اللحظة لتقول لتل أبيب: المسار الإقليمي جاهز، والاعتراف الدولي يُمكن أن يُترجم بسرعة إذا قررتم إنهاء الحرب. هنا تصبح بريطانيا وسيطًا يربط بين الضغط الغربي والإسناد العربي، في محاولة لتطويق حكومة نتنياهو وإجبارها على مراجعة استراتيجيتها.

 


الداخل البريطاني: ضغط أخلاقي وحسابات انتخابية

لا يمكن فصل هذا التحول البريطاني عن الداخل. منذ أشهر، تتعرض حكومة العمال لضغط متزايد من الشارع البريطاني الذي شاهد صور المجاعة في غزة والقتل الجماعي للمدنيين. النقابات، والجامعات، ومنظمات حقوق الإنسان، مارست حملة ضغط متواصلة. ستارمر، الذي واجه اتهامات سابقة بالتساهل مع إسرائيل، وجد في الاعتراف بفلسطين فرصة لاستعادة شرعية أخلاقية، ولتقديم حزبه كقوة سياسية تتمايز عن الإرث الاستعماري القديم لبريطانيا في الشرق الأوسط. وهنا يتقاطع البُعد الأخلاقي مع الحساب السياسي: الاعتراف يمنح الحكومة ورقة داخلية، ويخفف من التوتر في الشارع، ويعيد تموضع لندن كفاعل دولي «متوازن» بعد أن خسرت الكثير من رصيدها خلال الحرب.

 


تل أبيب في مواجهة «العزلة المتدرجة»

الرد الإسرائيلي جاء سريعًا: الاعتراف بفلسطين في ظل استمرار حرب غزة هو «مكافأة للإرهاب». لكن وولترز ردّ بشكل مباشر: الاعتراف ليس جائزة لحماس بل وسيلة لعزلها وإضعافها، عبر تقوية معسكر السلطة الفلسطينية. هنا يظهر مأزق تل أبيب: كلما أصرت على استمرار الحرب، كلما عززت عزلة نفسها أمام أوروبا والغرب. ومع منع المشاركة في المعارض، والتلويح بعقوبات إضافية، تجد إسرائيل نفسها أمام سيناريو تدريجي من «العزلة المتدرجة»، حيث لا يقطع الغرب علاقاته فجأة، لكنه يقلّص من مساحات الشرعية خطوة بخطوة.

 

لماذا الآن؟ منطق بريطاني بخمس ركائز

1. خفض الكلفة الإنسانية والسياسية عبر وقف نار عاجل.

2. إعادة التوازن الأخلاقي لبريطانيا بعد صور المجاعة في غزة.

3. تحصين أمن إسرائيل بضمانات دولية ودولة فلسطينية منزوعة السلاح.

4. استثمار الغطاء العربي لتوفير شرعية إقليمية للمسار الجديد.

5. استعادة النفوذ البريطاني في الشرق الأوسط كلاعب دبلوماسي واقتصادي.

 

رسالة بريطانيا لا يمكن اعتبارها مجرد تعبير عن «تعاطف إنساني». إنها سياسة عملية تعرض على إسرائيل «سُلّم نزول» من الحرب التي باتت عبئًا دوليًا عليها. الخيار أمام تل أبيب واضح: إما قبول التفاوض والاعتراف الدولي بالعواقب، أو المضي في حربٍ تُوسع دائرة الدم وتُعمّق العزلة. بالنسبة للندن، اللحظة مناسبة للضغط، ومعها أوروبا والعالم العربي، لكن بالنسبة لإسرائيل، اللحظة قد تكون أخطر اختبار استراتيجي منذ 1967.

 

من وعد بلفور إلى اعتراف مشروط

1917 – وعد بلفور:
بريطانيا كانت أول من منح الغطاء السياسي للحركة الصهيونية، عبر رسالة وزير خارجيتها آرثر بلفور التي تعهّد فيها بدعم إقامة "وطن قومي لليهود في فلسطين". كان هذا الوعد بداية شرعنة المشروع الاستعماري، ومهّد الطريق لسياسات التهجير والاقتلاع التي طالت الفلسطينيين لاحقًا.

الانتداب البريطاني (1920 – 1948):
خلال فترة الانتداب، وفّرت بريطانيا المظلة الكاملة لتهجير اليهود إلى فلسطين، وحمت العصابات الصهيونية المسلحة، بينما قمعت الثورات الفلسطينية المتكررة. انتهى دورها بانسحابها وتسليم الأرض عمليًا للعصابات الصهيونية عام 1948، ما فتح الباب لقيام "إسرائيل" وتشريد أكثر من 750 ألف فلسطيني في النكبة.

مرحلة ما بعد النكبة:
تبنّت لندن موقفًا ملتبسًا؛ فهي اعترفت بـ"إسرائيل" لكنها أبقت على تواصل سياسي مع بعض الدول العربية، مراعاة لمصالحها النفطية والاستراتيجية في المنطقة. ومع ذلك، بقيت النظرة البريطانية لفلسطين محصورة في "قضية إنسانية" أكثر من كونها قضية تحرر وحقوق سياسية.

مرحلة أوسلو (1993 – 2000):
انخرطت بريطانيا في رعاية "عملية السلام"، وفتحت قنوات مع السلطة الفلسطينية الناشئة، لكنها لم تتجاوز الموقف الأميركي في اعتبار الحل مرهونًا بمفاوضات مباشرة، وهو ما منح "إسرائيل" غطاءً لمواصلة الاستيطان.

الانتفاضات الفلسطينية والحروب على غزة:
تذبذب الموقف البريطاني بين الإدانة الشكلية للعنف الإسرائيلي، والدعم العملي له عبر صفقات السلاح والتنسيق الأمني. ومع ذلك، بدأ الداخل البريطاني – من نقابات وجامعات وأحزاب – يضغط باتجاه مقاطعة إسرائيل ورفع الصوت لصالح الفلسطينيين.

التحولات الأخيرة (2014 – 2024):
عام 2014 صوّت البرلمان البريطاني لصالح الاعتراف بالدولة الفلسطينية في اقتراح رمزي. ومع تصاعد الحروب على غزة، تعاظمت الانتقادات الشعبية والرسمية لجرائم الاحتلال. وجاءت حكومة حزب العمال بقيادة كير ستارمر لتعلن أن الاعتراف بفلسطين "ليس مسألة إنسانية فقط بل مصلحة استراتيجية لأمن إسرائيل نفسها".

2025 – لحظة الانعطاف:
موقف السفير البريطاني في الأمم المتحدة يعكس بداية مراجعة تاريخية لسياسات لندن: من وعد بلفور الذي أسس للمأساة الفلسطينية، إلى خطاب سياسي جديد يضع وجود إسرائيل رهنًا بقبول الدولة الفلسطينية. وبين هذين التاريخين يمتد قرن كامل من التواطؤ والإنكار والتناقضات التي صنعت المأساة المستمرة.
 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 3 + 4