بعد مرور نحو عام على توقيف حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة، تتجه الأنظار في الرابع من سبتمبر 2025 نحو احتمال إخلاء سبيله، في خطوة قد تشكل نقطة تحوّل في مسار العدالة المالية في لبنان. القضية تتجاوز التهم الجزائية التقليدية، إذ ترتبط بشكل مباشر بالانهيار المالي الذي أصاب البلاد منذ عام 2019، وجعل ملايين اللبنانيين ضحايا أزمة مصرفية واقتصادية غير مسبوقة.
ويأتي هذا التوقيت بعد سنة كاملة من التوقيف الاحتياطي، وسط نقاش قانوني حاد حول مدى قدرة القضاء على الموازنة بين حق المتهم القانوني بالحرية وضرورة محاسبته عن دوره في انهيار النظام المالي اللبناني.
التوقيف الاحتياطي والكفالة المالية
القانون اللبناني يمنح الموقوف احتياطات معينة، وفقًا لقانون محاكمة الأصول الجزائية، المادة 108، حيث يمتد التوقيف الاحتياطي أولاً لمدة شهرين مع إمكانية التجديد مرة واحدة، ثم ستة أشهر مع إمكانية التجديد مرة واحدة بقرار قضائي معلل. وبعد مرور سنة، يصبح من حق الموقوف أن يخرج من السجن حتى من دون دفع أي مبلغ ككفالة، ما يُعرف قانونيًا بـ"الخروج من السجن بحق".
المحامي والناشط السياسي لؤي غندور يرى أن مبلغ الكفالة المرتفع الذي فُرض على سلامة (20 مليون دولار) لا يشكل عقبة قانونية لإخلاء سبيله، مشيرًا إلى أن المحاكمة ستستمر حتى وهو خارج السجن. وأضاف غندور أن محامي سلامة تقدم باستئناف لتخفيض مبلغ الكفالة، في خطوة يمكن تفسيرها كطريقة للانتظار حتى انتهاء المدة القانونية للخروج دون دفع الكفالة.
البعد السياسي والأمني للقضية
النائب المعارض إبراهيم منيمنة وصف سلامة بأنه "ليس متهماً عادياً"، مشيرًا إلى أنه ساهم في بناء منظومة مالية متكاملة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأمن القومي اللبناني على مستوى السياسات المالية والمصرفية. ووفق هذا الطرح، فإن أي قرار بإخلاء سبيله يحتاج إلى تقييم دقيق للمخاطر السياسية والاقتصادية، وليس مجرد تطبيق شكلي للقانون.
منيمنة شدد على أن القرار القضائي يجب أن يكون مستقلاً تمامًا عن أي تدخل سياسي، وأن القضاء عليه أن يسرّع في إصدار حكم واضح لتجنب استمرار حالة الترقب التي تثير الاحتقان الشعبي، خصوصًا في ظل تداعيات الأزمة المصرفية على حياة المواطنين اليومية.
الكفالة الأعلى في تاريخ لبنان
يعتبر الخبير الاقتصادي وليد أبو سليمان أن كفالة سلامة هي الأعلى تاريخيًا في لبنان، لافتًا إلى أن مشكلة دفعها تتعلق بتجميد ممتلكاته وأمواله داخل لبنان وخارجه. وشرح أبو سليمان أن الاتهام الرسمي المعلن يقتصر على نحو 40 مليون دولار، بينما تشمل ملفات إضافية مثل "فوري" مبالغ تتجاوز 300 مليون دولار، ما يجعل قيمة الكفالة كبيرة مقارنة بحجم الاتهام الفعلي.
وأضاف أبو سليمان أن دفع الكفالة من شأنه إثارة تساؤلات حول مصدر الأموال، مما قد يعرض سلامة لمساءلة قانونية إضافية، وهو ما يفسر رفضه أو عدم قدرته على السداد، وجعل محاميه ينتظر انتهاء المدة القانونية لإخراجه دون مقابل.
ردود الفعل الشعبية وتأثير الأزمة المالية
تداول اللبنانيون خبر احتمال إخلاء سبيل سلامة عبر منصات التواصل الاجتماعي، معبرين عن غضبهم الشديد، خاصة أن المصارف ما تزال تحتجز أموالهم منذ سنوات، ما دفعهم لانتقاد بطء القضاء وعدم شفافية الإجراءات. ويمثل هذا التفاعل الشعبي ضغطًا إضافيًا على السلطة القضائية، التي تجد نفسها أمام اختبار دقيق لكسب ثقة المجتمع في التعامل مع ملف حساس يمس العدالة المالية والشفافية.
الفصل الخامس: خلفية الأزمة المالية اللبنانية
للفهم الكامل لمسألة إخلاء سبيل سلامة، لا بد من الإشارة إلى السياق الاقتصادي: انهيار النظام المصرفي اللبناني منذ عام 2019 تسبب في فقدان اللبنانيين لأكثر من 90% من قيمة ودائعهم بالليرة اللبنانية، وانهيار قيمة العملة المحلية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة.
رياض سلامة كان يشغل منصب حاكم مصرف لبنان لأكثر من عقدين، وقد ارتبط اسمه بإدارة الاحتياطيات النقدية والسياسات المصرفية التي أدت في نظر البعض إلى تعميق الأزمة. لذا فإن محاكمته لا تعكس فقط مسؤوليات شخصية، بل هي اختبار لقدرة القضاء اللبناني على مساءلة من كانوا في قلب المنظومة المالية.
بين الجدل القانوني والسياسي، يظل القرار النهائي بيد القضاء اللبناني، الذي سيواجه تحديًا غير مسبوق في الموازنة بين احترام القانون وحق الموقوف وبين حماية العدالة والمصلحة العامة. وفي حال تم إخلاء سبيل سلامة بعد انتهاء المدة القانونية، سيكون ذلك سابقة قانونية قد تعيد تشكيل العلاقة بين القضاء والسلطة المالية في لبنان، وتحدد معالم العدالة المالية في مستقبل البلاد.