"الأرض مقابل الأرض" مقايضة الحدود من غرف سرّية إلى صخب الإعلام
في الساعات الأخيرة، تصدّر خبر «المقايضة الحدودية» بين إسرائيل وسوريا عناوين الصحافة العبرية، قبل أن يسارع مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى نفيه بشكل قاطع.
ما نُشر عن احتمال تسليم مزارع شبعا وجبل روس إلى سوريا مقابل وقف المطالبة بالجولان السوري المحتل بدا للوهلة الأولى «مبالغة إعلامية»، لكن العودة إلى تفاصيل السياق تبيّن أن الأمر يتجاوز مجرد شائعة، ليكشف عن حراك سياسي – أمني غير معلن تديره تل أبيب ودمشق في لحظة إقليمية شديدة التعقيد.
«كان» تكشف ما وراء الكواليس
مساء الأربعاء، نقلت هيئة البث الإسرائيلية «كان» عن مصادر لم تُسمِّها أن إسرائيل درست بجدية خيار نقل السيادة على مزارع شبعا إلى سوريا، على أن يقابله تعليق سوري للمطالبة بالجولان.
التسريب أوضح أن هذا المسار توقّف بعد أحداث «مجزرة جبل الدروز» في السويداء، لكن اللافت أنه للمرة الأولى يظهر حديث صريح عن «مبادلة أرض بأرض» بين الطرفين، ولو في إطار تفاوضي محدود.
هذا النوع من التسريبات عادةً لا يخرج إلى الإعلام العبرية إلا إذا كانت هناك مداولات حقيقية في غرف مغلقة، أو كانت تل أبيب تريد اختبار الرأي العام – المحلي والدولي – إزاء فكرة حساسة، من هنا اكتسب التقرير أهميته، حتى مع صدور النفي الرسمي لاحقًا.
نفي حاد وإغلاق الباب
في صباح اليوم الخميس، خرج مكتب نتنياهو ببيان مقتضب لكنه شديد اللهجة: «هذه أخبار كاذبة، لم يصدر عن إسرائيل أي موقف بشأن تسليم شبعا أو جبل روس».
النفي هنا لم يكن مجرد تصحيح إعلامي، بل محاولة واضحة لإغلاق أي باب أمام قراءة سياسية داخلية تعتبر الحكومة على استعداد للتنازل عن أراضٍ، ولو صغيرة الحجم، فالمشهد الإسرائيلي الداخلي لا يحتمل أي إشارة إلى تراجع عن «مكاسب أمنية» تحققت منذ 1967، خصوصًا في ظل أجواء حرب مستمرة مع غزة وتوتر دائم مع لبنان.
الموقف السوري: «سابق لأوانه»
من الجانب السوري، جاءت التصريحات حذرة، مصدر رسمي أكد أن أي حديث عن سلام أو اتفاقية مع إسرائيل الآن «سابق لأوانه»، مشددًا على أن استعادة الجولان كاملاً تبقى أولوية لا تقبل المساومة.
في واقع الأمر، فإن دمشق تجد نفسها أمام معادلة معقدة: فهي من جهة تعاني ضغطًا داخليًا بسبب أحداث السويداء، ومن جهة ثانية لا تستطيع سياسيًا أو شعبيًا الدخول في أي مقايضة توحي بالتنازل عن الجولان، ولهذا السبب اختارت صيغة «التهدئة» بالقول إن التوقيت غير مناسب، دون أن تدخل في تفاصيل.
لماذا الآن؟
إعادة فتح ملف مزارع شبعا في هذا التوقيت لا يمكن قراءته بمعزل عن المشهد الإقليمي المشتعل، فالأحداث الدامية في السويداء كشفت هشاشة الموقف الداخلي السوري، وأبرزت التآكل المتسارع في قدرة النظام على ضبط الأطراف المحلية، هذه التطورات تُضعف قدرة دمشق على المساومة في الملفات الإقليمية، وتفتح الباب أمام تل أبيب لاستغلال اللحظة عبر إحياء ورقة شبعا كعامل ضغط سياسي وأمني.
على الجبهة المقابلة، تواجه إسرائيل استنزافًا غير مسبوق في غزة بعد ما يقارب عامين من الحرب المستمرة، مع بقاء جبهتها الشمالية مشتعلة بنيران حزب الله. في مثل هذا السياق، تبدو الحاجة الإسرائيلية إلى "تغيير قواعد اللعبة" ملحّة.
إثارة ملف شبعا قد يُستخدم لإرباك دمشق عبر دفعها نحو مواجهة سياسية لا تستطيع تحمّلها، أو لإظهار استعداد شكلي لـ"حلول حدودية" بغرض تحسين صورتها أمام المجتمع الدولي، من دون أن تنطوي على أي تنازل فعلي.
بالنسبة للبنان، فإن اللحظة بالغة الحساسية، أي تحرك إسرائيلي في هذا الملف سيُفسَّر على أنه محاولة لفرض وقائع ميدانية جديدة في ظل ضعف الدولة اللبنانية وانشغالها بأزماتها الاقتصادية والسياسية.
أما حزب الله، فينظر إلى التوقيت باعتباره تهديدًا مزدوجًا: فمن جهة، قد يُستخدم الملف للضغط على شرعية سلاحه، ومن جهة أخرى قد يدفعه للدخول في مواجهة أوسع مع إسرائيل في لحظة إقليمية حرجة.
مزارع شبعا وجبل روس: عقدة جغرافية وسياسية
تُعتبر مزارع شبعا وجبل روس واحدة من أعقد الملفات الحدودية في المشرق العربي، حيث يلتقي الجغرافيا بالسياسة في صورة مكثفة تمتد مزارع شبعا على مساحة تُقدَّر بحوالي 25 كيلومترًا مربعًا عند المثلث الحدودي بين لبنان وسوريا وفلسطين المحتلة، وهي مساحة صغيرة بالمعايير الجغرافية، لكنها محمّلة بأبعاد استراتيجية تفوق حجمها بأضعاف، فمن الناحية القانونية، ترى الأمم المتحدة أنها جزء من الجولان السوري المحتل منذ عام 1967، وتؤجل حسم هويتها النهائية إلى حين إنجاز عملية ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا، لكن بالنسبة للبنان، تُمثل المزارع أرضًا لبنانية محتلة لا جدال فيها، وهو ما منحها بعدًا سياديًا وسياسيًا يتجاوز مساحتها الضيقة، أما دمشق، فتبقي على خطاب "التضامن" مع الموقف اللبناني، وتستخدم الملف كورقة سياسية مرتبطة بمسار الصراع مع إسرائيل.
على الضفة الأخرى، تنظر إسرائيل إلى المزارع من زاوية أمنية بحتة، فهي تُشكّل شريطًا استراتيجيًا يتحكم بالسفوح الغربية لجبل الشيخ (جبل حرمون)، ما يجعلها نقطة مراقبة متقدمة على كامل الجنوب اللبناني وصولًا إلى البقاع ومن هنا، فإن التخلي عنها – حتى في إطار تفاوض مع سوريا – يطرح تحديات تتعلق بميزان الردع وبقواعد الاشتباك مع "حزب الله"، الذي يرفع لواء "تحرير شبعا" كذريعة لبقاء سلاحه واستمراره في العمل العسكري ضد إسرائيل.
جبل روس: امتداد استراتيجي لمعادلة الصراع
يقع جبل روس في الجيب الحدودي المتداخل بين لبنان وسوريا والجولان المحتل، ويُعتبر امتدادًا طبيعيًا لسلسلة جبل الشيخ التي تشكّل أعلى مرتفعات المنطقة وأكثرها حساسية عسكرية، فرغم محدودية مساحته، إلا أن موقعه المرتفع يمنحه أهمية عسكرية فائقة، إذ يتيح إشرافًا مباشرًا على ممرات استراتيجية تصل بين البقاع اللبناني، ريف دمشق الغربي، والجولان، هذا الموقع جعله في قلب حسابات الجيش الإسرائيلي منذ عام 1967، حيث تحوّل إلى نقطة متقدمة للسيطرة والرصد، خصوصًا مع نشر الرادارات الإسرائيلية على قممه لمراقبة التحركات في العمقين السوري واللبناني.
من الناحية السياسية، يظل جبل روس ورقة غير منفصلة عن مزارع شبعا، فبالنسبة للبنان، أي تنازل عن الجبل يعني تكريس فقدان شريط حدودي إضافي، وبالنسبة لسوريا، فإن المطالبة به تبقى جزءًا من خطاب "السيادة الكاملة" على الجولان، أما إسرائيل، فتتعامل معه كجزء من شبكة الأمان الاستراتيجية التي يصعب التخلي عنها، إذ يشكّل مع شبعا "حزامًا عازلًا" بين العمق الإسرائيلي والحدود الشمالية.
وبذلك، لا يُنظر إلى جبل روس كجغرافيا معزولة، بل كجزء من مثلث حساس: الجنوب اللبناني – الجولان السوري – ريف دمشق. وأي تسوية تتعلق به ستعني بالضرورة إعادة صياغة التوازنات الإقليمية، خصوصًا مع وجود قوات "اليونيفيل" في الجنوب اللبناني، وارتباط الملف مباشرةً بمسألة سلاح حزب الله ومستقبل النزاع العربي – الإسرائيلي.
تعود جذور الخلاف حول مزارع شبعا وجبل روس إلى فترة ما قبل عام 1967، حين كانت المنطقة تدار إداريًا من قبل السلطات السورية، في ظل غياب ترسيم دقيق للحدود اللبنانية – السورية في تلك البقعة الجبلية الوعرة. ومع اندلاع حرب حزيران/يونيو 1967، سيطرت إسرائيل على الجولان السوري بما فيه المزارع والجبل، وهو ما وضعهما قانونيًا في خانة "الأراضي السورية المحتلة" بموجب قرارات الأمم المتحدة، لا سيما القرار 242.
لكن مع الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، أثير الخلاف من جديد، حيث طالبت الدولة اللبنانية ومعها حزب الله باعتبار مزارع شبعا وجبل روس جزءًا من الأراضي اللبنانية التي يجب أن يشملها الانسحاب.
في المقابل، تمسكت الأمم المتحدة بموقفها القائل إن المنطقة "سورية" حتى يتم الترسيم الرسمي بين بيروت ودمشق، هذا الموقف شكّل عقدة مستمرة، إذ وفّر لإسرائيل غطاءً قانونيًا لمواصلة احتلالها، وأتاح لحزب الله في الوقت نفسه ذريعة لمواصلة المقاومة المسلحة بذريعة "استكمال تحرير الأرض".
منذ ذلك الحين، تحوّل الملف إلى ورقة سياسية مفتوحة: لبنان يصرّ على لبنانية شبعا وجبل روس، سوريا تلوّح بدعمه دون توقيع خرائط رسمية، وإسرائيل تستخدم الغموض القانوني كأداة لتكريس وجودها العسكري، أما القوى الدولية، وخاصة الولايات المتحدة، فتتعامل مع القضية كجزء من مفاوضات أشمل مرتبطة بالجولان المحتل ومستقبل الصراع السوري – الإسرائيلي.
إسرائيل: بين ورقة التفاوض وهواجس الأمن
بالنسبة لإسرائيل، تبقى مزارع شبعا وجبل روس أكثر من مجرد قطعة أرض صغيرة؛ فهي ورقة سياسية وأمنية في آن واحد، الانسحاب منها، ولو جزئيًا أو رمزيًا، قد يُستخدم أمام المجتمع الدولي كإشارة إلى "المرونة"، لكن في الداخل الإسرائيلي سيُقرأ باعتباره تنازلًا استراتيجيًا يُضعف فكرة "السيادة الكاملة" على الأراضي التي تسيطر عليها، والأخطر بالنسبة لتل أبيب أن أي اعتراف بعدم أحقيتها في شبعا سيُفقدها ذريعة وجودها العسكري في تلك المنطقة الحساسة المطلّة على جبل الشيخ، ويُضعف حججها أمام أي مفاوضات مستقبلية حول الجولان، من هذا المنطلق، تفضل إسرائيل إبقاء الملف عالقًا، بحيث تستخدمه أداة ضغط على لبنان وسوريا معًا، وتحتفظ في الوقت نفسه بقدرة عملياتية لمراقبة التحركات في الجنوب اللبناني.
سوريا: معادلة الخسارة المؤجلة
من زاوية دمشق، تبدو معركة شبعا محاصرة بمعادلة صعبة: أي اعتراف رسمي بلبنانيتها قد يمنح لبنان مكسبًا سياسيًا، لكنه يجرّد سوريا من ورقة إضافية في نزاعها التاريخي حول الجولان، فشبعا في الحسابات السورية ليست مجرد مساحة جغرافية، بل ورقة تضامن إقليمي تُستخدم لربط ملف لبنان بملف الجولان المحتل، لهذا السبب، ورغم الخطابات المؤيدة للموقف اللبناني، امتنعت دمشق عن توقيع خرائط رسمية أو وثائق قانونية حاسمة تثبت لبنانية المزارع، في ظل الوضع الداخلي السوري الحالي، ومع تعدد الجبهات والضغوط، يصبح التنازل عن ورقة بحجم شبعا رفاهية سياسية لا تستطيع دمشق تحمّلها.
لبنان: معركة السيادة المعلّقة
يرى لبنان أن مزارع شبعا وجبل روس تمثل اختبارًا لسيادته الوطنية ومصداقيته في الدفاع عن أراضيه، فالتجاوز الإسرائيلي المستمر يُنظر إليه داخليًا على أنه إقصاء لدور الدولة اللبنانية وتهميش لحقها في تقرير مصير حدودها. وبالنسبة للحكومات اللبنانية المتعاقبة، أي تسوية تتم بين إسرائيل وسوريا من دون إشراك بيروت تُعد إضعافًا لموقع الدولة وتكريسًا لصورة لبنان كـ"ساحة" بدل أن يكون طرفًا كامل الحقوق، ومع ذلك، يجد لبنان نفسه محاصرًا بين موقف أممي متريث لا يعترف بلبنانية شبعا إلى حين الترسيم مع سوريا، وبين موازين قوى إقليمية تُقلّص من هامش حركته الدبلوماسية.
حزب الله: شرعية المقاومة على المحك
يُشكّل ملف مزارع شبعا حجر الأساس في خطاب حزب الله المقاوم منذ انسحاب إسرائيل من الجنوب عام 2000. فاستمرار الاحتلال الإسرائيلي للمزارع يُستخدم لتبرير استمرار "المقاومة المسلحة"، باعتبار أن الانسحاب لم يكن كاملًا، ومن هنا، فإن أي تسوية تُخرج شبعا من دائرة النزاع من دون اشتباك عسكري مباشر، قد تُصيب سردية الحزب في الصميم، حتى لو استمرت التوترات الحدودية، بالنسبة للحزب، الاحتفاظ بشبعا كأرض "محتلة" يتيح له مساحة مناورة مزدوجة: داخليًا، لتأكيد دوره كقوة تحمي لبنان من العدوان، وخارجيًا، لإبقاء المواجهة مع إسرائيل مفتوحة ضمن حدود مدروسة.
إعادة تسريب فكرة "المقايضة" الآن تبدو وكأنها محاولة لإحياء روح تلك المفاوضات القديمة لكن بزاوية جديدة: إدخال مزارع شبعا كورقة جزئية في لعبة أكبر تخص الجولان. غير أن التجارب السابقة تؤكد أن دمشق لن تقبل باتفاق جزئي لا يضمن لها استعادة كامل الجولان، فيما ترى إسرائيل أن أي انسحاب كامل يهدد أمنها الاستراتيجي. وبالتالي، فإن إعادة فتح الملف قد تعكس أكثر مناورة سياسية أو اختبارًا لردود الفعل، لا خطة واقعية قابلة للتنفيذ في المدى القريب.
وبين النفي الإسرائيلي والتسريب الإعلامي، يظل ملف مزارع شبعا وجبل روس مفتوحًا على احتمالات متعددة، لكن الحقيقة الواضحة أن الجولان يبقى خطًا أحمر، لا يمكن لأي طرف تجاوزه في ظل غياب تسوية شاملة.
التسريبات الأخيرة قد لا تعني اقتراب «مقايضة» فعلية، لكنها تكشف أن الحدود الشمالية لإسرائيل وسوريا ما تزال ساحة للتجاذب والمساومات، وأن الملفات الصغيرة – مثل شبعا – تُستخدم كأدوات ضغط في لعبة إقليمية أكبر.
البعد اللبناني في ملف شبعا
تمثل مزارع شبعا نقطة خلافية مزمنة، فهي جغرافيًا تقع على المثلث الحدودي السوري–اللبناني–الإسرائيلي. بينما تؤكد لبنان رسميًا أنها أرض لبنانية محتلة، تستند إسرائيل إلى وثائق الأمم المتحدة التي تعتبرها في الأصل أرضًا سورية احتلتها تل أبيب مع الجولان عام 1967. أما سوريا، فقد أبقت موقفها غامضًا نسبيًا، إذ لم تسجل اعتراضًا رسميًا في الأمم المتحدة على تبعية شبعا للبنان، لكنها أيضًا لم تحسم علنًا مسألة السيادة بشكل قاطع. هذا التعقيد جعل من شبعا ورقة سياسية بيد مختلف الأطراف، ومصدر توتر دائم على الحدود.
دور اليونيفيل وتوازن القوى
منذ عام 2000، وبعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، تولت قوات الطوارئ الدولية (اليونيفيل) مراقبة الوضع في المنطقة، لكن وجودها لم يحلّ المعضلة الأساسية: إسرائيل ما زالت تحتفظ بالسيطرة الكاملة على المزارع، فيما يستخدم حزب الله هذا الملف كذريعة لمواصلة نشاطه العسكري ضد تل أبيب، باعتبار أن "الأرض لم تتحرر بعد". وبذلك تحولت شبعا إلى رمز سياسي وعسكري يبرر استمرار "المقاومة" في الخطاب اللبناني.
يبقى ملف مزارع شبعا والجولان مرآة للتشابك المعقد بين الحدود والسيادة والأمن والسياسة. وبينما تنفي إسرائيل وجود أي مقايضة، فإن مجرد تداول الفكرة يشي بوجود نقاشات خلف الكواليس، سواء عبر وسطاء أو في دوائر البحث السياسي. وفي ظل انعدام الثقة المتبادل، تبدو فرص التوصل إلى اتفاق في الوقت القريب ضئيلة، لكن تسليط الضوء على الملف الآن يعكس إدراك الأطراف أن أي ترتيبات مستقبلية في المنطقة لا بد أن تمر عبر تسوية هذه العقدة التاريخية.
تهدئة مؤقتة أم صفقة محفوفة بالمخاطر؟
ثلاثة مسارات عملية تبرز أمام المشهد: الأول (الأكثر احتمالًا) يدور حول نفي علني مع حوار سري؛ الثاني يفتح الباب لترتيبات أمنية جزئية دون مساس قانوني بالجولان؛ الثالث، الأضعف، يتحدث عن صفقة رمزية تُخرج شبعا من دائرة الخلاف مقابل تنازلات سورية على مستوى الخطاب.
كل مسار له تبعات ميدانية وسياسية داخلية وإقليمية مختلفة، ويتوقف توقيته على معطيات أمنية ومحلية في دمشق وبيروت وتل أبيب، وكذلك على دور الوسطاء الدوليين.
1) النفي مع استمرار القنوات الأمنية — السيناريو المرجّح
ماذا يحدث عمليًا؟
تلجأ كل الأطراف إلى موقفٍ رسمي متباين: نفي علني من إسرائيل، وسكوت أو تهدئة من دمشق، بينما تظل الاجتماعات الأمنية والاتصالات الاستخباراتية عبر وسطاء غربيين أو إقليميين نشطة في الخلفية. هذه القنوات تُستخدم لإدارة حوادث حدودية وتهدئة محطات تصعيد محلية دون أي إعلان سياسي أو تنازلات قانونية.
من يكسب ومن يخسر؟
تكسب إسرائيل في أنها تحتفظ بمرونة استراتيجية وتُبقي ورقة الضغط على الطاولة دون تكلفة سياسية كبيرة. تكسب دمشق هامشًا للحفاظ على خطابها الداخلي بخصوص الجولان مع إمكانية شراء تهدئة مؤقتة لمواجهة أزمات داخلية. يخسر الجمهور المالي والسياسي في لبنان واللبنانيون الذين قد يُحرمون من دور منظّم في أي تفاهمات مُحتمَلة تُتخذ خلف ظهورهم. حزب الله يتأقلم مؤقتًا لكنه يخسر خطوة دعاية إذا هدأت الجبهة.
ردود فعل محتملة.. نفي رسمي يرافقه ميل صحفي لتسريب معلومات ضيقة ومُنقّحة، وتصاعد دعائي داخلي من أطراف سياسية في لبنان والساحة السورية للتأكيد على ضرورة مشاركة بيروت. المجتمع الدولي يُرحّب بالتهدئة الميدانية لكن يطالب بشفافية.
مؤشرات للرصد.. زيارات مفاجئة لوفود عسكرية/أمنية، اتصالات علنية بين وسطاء إقليميين، انخفاض في حدة الاشتباكات عند الخط الأزرق أو محيط حرمون، وتغيير في خطاب حزب الله نحو تلطيف التصعيد.
المخاطر، خطر حدوث حادث ميداني خارج سيطرة القنوات السرية يؤدي لتفجير الموقف—تذكير مستمر بأن إدارة ما وراء الكواليس ليست ضمانة دائمة لمنع التصعيد.
احتمال حدوثه: عالي (الأقرب للحدوث على المدى القريب).
2) ترتيبات جزئية وأمنية بوساطة دولية — سيناريو متوسط الاحتمال
ماذا يحدث عمليًا؟
يُتفق على مجموعة تدابير أمنية مؤقتة ومحددة (مثلاً: آليات لتنسيق الإبلاغ عن تحركات مسلحة، ضبط نقاط مراقبة، قواعد اشتباك معدّلة حول سفوح حرمون)، بصيغة وثائقية بوساطة أميركية أو دولية؛ لا تمسّ هذه التفاهمات بالوضع القانوني للجولان أو بسيادة الأطراف، لكنها تعيد رسم قواعد اللعبة الميدانية مؤقتًا لتقليل احتمالات التصعيد.
من يكسب ومن يخسر؟
تكسب إسرائيل استقرارًا تكتيكيًا على الجبهة الشمالية، وتستعيد قدرة على ضبط الإيقاع بدون التخلي عن الحقوق القانونية التي تدّعيها. تكسب دمشق تهدئة ميدانية مؤقتة تسمح برأب صدع داخلي. تخسر بعض القوى اللبنانية (أو تُجبر على إعادة تقييم خطابها) إذا جاءت الترتيبات دون إشراك بيروت الكامل، لكن مشاركة أممية/أوروبية قد تُخفف الاحتقان.
ردود فعل محتملة.. بيانات تفاهم مشتركة بتوقيع وسطاء، تنسيق أمني مُعلن مع آليات رصد مشتركة أو إشراف أممي محدود، وظهور خرائط تشغيلية أو مذكرات تفاهم تُسَهِّل تطبيق التهدئة. حقل الإعلام يتحول إلى ترويج لفكرة "تفادي الحرب" بينما تُثار انتقادات داخلية من معارضين يرون في الترتيبات تنازلات غير رسمية.
مؤشرات للرصد.. إعلان وساطة دولية، وصول مراقبين جدد أو تعزيزات لليونيفيل، توقيع مذكرات تفاهم أمنية، انخفاض واضح في تبادل النار أو الهجمات عبر الحدود.
المخاطر.. الترتيبات الجزئية قد تعطي وهم الاستقرار وتُغذّي توقعات زائفة بحل سياسي أوسع؛ حادث واحد قد يهزّ الثقة ويقود إلى تصعيد سريع. أيضاً، استبعاد بيروت قد يُعيد إشعال الساحة السياسية اللبنانية.
احتمال حدوثه: متوسط.
3) صفقة رمزية — منح مكسب محدود لشبعا مقابل تجميد المطالبة بالجولان — سيناريو منخفض الاحتمال لكنه محفوف بالتبعات
ماذا يحدث عمليًا؟
تُقدّم إسرائيل لدمشق «مكسبًا شكليًا» محدودًا (مثلاً، إعادة سيادية جزئية على قطع أرضية محددة أو ترتيبات رمزية لإدارة محلية) مقابل التزام سوري معلن بتجميد الخطاب المطالب بالجولان أو شروط مساومة قابلة للتنفيذ زمنياً. هذا المسار يتطلب غطاءً دبلوماسيًا أميركيًا أو دوليًا ويستلزم تجاوبًا لبنانيًا أو تسوية تعويضية لبيروت.
من يكسب ومن يخسر؟
تكسب دمشق مكسبًا إعلاميًا وآنيًا قد يخفف الضغوط الداخلية، بينما تخسر مبادئها الاستراتيجية المتعلقة بالجولان، ما قد يخلق شرخًا سياسيًا داخليًا. تكسب إسرائيل ورقة استثمار دعائي ودبلوماسي لكنها تتحمل تكلفة سياسية داخلية ومخاطر مواجهة مع حزب الله ورفض لبناني. لبنان وحزب الله يخسران أرضية خطابية، وقد يستدعي الأمر ثمناً سياسياً وميدانيًا باهظًا.
ردود فعل محتملة.. رفض شعبي واسع في سوريا ولبنان، هجمات معاقبة من فصائل متطرفة أو مجموعات تجنّبها دمشق؛ تصاعد دموي محتمل على الخطوط، مما قد يلجئ بالأطراف إلى سحب الصفقة سريعًا أو تعويمها بتسويات أوسع إقليمياً. كما أن المجتمع الدولي قد يُحاول الوساطة لتهدئة ردود الفعل وتقديم تعويضات أو حزم ضمانات.
مؤشرات للرصد.. ظهور وثائق تفاهم واضحة، مواقف رسمية متبادلة تُظهِر التزامًا، ردود فعل حزبية وشعبية قوية في بيروت ودمشق، وتحركات عسكرية مفاجئة من حزب الله أو تشكيلات مسلحة.
المخاطر.. هذا السيناريو قادر على إشعال مواجهة إقليمية واسعة، لأن كلاً من بيروت ودمشق وحلفاؤهما الإقليميين قد يرفضون صفقة تُغيّب حقوقهم أو تضعف مواقعهم الاستراتيجية. التقديرات تُظهر أن الكلفة السياسية والميدانية لنجاح مثل هذه الصفقة كبيرة جدًا.
احتمال حدوثه: منخفض، لكنه ذو تبعات عالية المخاطر إذا نُفّذ.
شهدت العقود الثلاثة الماضية سلسلة من المحاولات للتوصل إلى تسوية بين دمشق وتل أبيب، كان محورها الأساسي مرتفعات الجولان، البداية كانت في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، حيث دخلت سوريا في مفاوضات مباشرة برعاية أميركية، لكن الخلاف على تفاصيل الانسحاب وعمق الترتيبات الأمنية أفشل التوصل لاتفاق. لاحقًا، في جنيف عام 2000، اجتمع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد بالرئيس الأميركي بيل كلينتون، غير أن الاجتماع انتهى دون نتيجة بعدما تمسكت سوريا بالانسحاب حتى خط الرابع من يونيو 1967، بينما أصرت إسرائيل على الاحتفاظ بشريط استراتيجي يطل على بحيرة طبريا.
في عام 2008، جرت جولة أخرى من المحادثات غير المباشرة في أنقرة بوساطة تركية، ووصلت إلى مراحل متقدمة نسبيًا، لكنها انهارت مع اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة آنذاك، ومع تطورات الساحة السورية لاحقًا، ومنذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، اختفت أي مؤشرات على استئناف هذا المسار، في ظل تحول الأولويات الدولية والإقليمية، وتزايد التدخلات العسكرية في سوريا.
مزارع شبعا بين لبنان وسوريا.. والبعد المرتبط بـ"حزب الله"
قضية مزارع شبعا ليست مجرد ملف حدودي، بل تحولت إلى أحد أبرز العناوين السياسية والأمنية في لبنان منذ انسحاب الجيش الإسرائيلي من الجنوب عام 2000. في حين أعلنت الأمم المتحدة أن الانسحاب الإسرائيلي كان كاملًا وفق "الخط الأزرق"، رفض "حزب الله" ذلك مؤكدًا أن مزارع شبعا وبلدة الغجر لا تزالان تحت الاحتلال.
منذ ذلك الحين، استخدم الحزب ملف شبعا كـ مبرر رئيسي لاستمرار سلاحه، معتبرًا أن "المقاومة" لا تزال ضرورية ما دامت هناك أراضٍ محتلة، ورغم أن الوضع القانوني للمزارع ملتبس – حيث تؤكد وثائق دولية أن المنطقة سورية الأصل، بينما يصر لبنان على أنها لبنانية – فإن الحزب جعل منها رمزًا لشرعية وجوده العسكري خارج سيطرة الدولة اللبنانية.
بالنسبة لإسرائيل، تدرك أن أي تسوية تخص شبعا ستصيب "حزب الله" في صميم حجته الأيديولوجية والسياسية، إذ سيُطرح السؤال: ما دام الاحتلال انتهى، فلماذا يحتفظ الحزب بترسانته وسلاحه؟ ولهذا، فإن إدخال ملف المزارع في أي تفاوض محتمل مع سوريا قد يكون أيضًا ورقة ضغط غير مباشرة على الحزب وعلى التوازنات اللبنانية الداخلية.
البُعد اللبناني في المعادلة الإسرائيلية – السورية
إسرائيل تنظر إلى جنوب لبنان ليس فقط من زاوية الصراع الحدودي، بل من خلال التشابك بين دمشق وحزب الله وطهران. فالمزارع تقع في نقطة التقاء بين لبنان وسوريا وإسرائيل، أي عند "مثلث جغرافي – أمني" حساس. أي تفاهم ثنائي بين دمشق وتل أبيب على المنطقة قد يفتح الباب أمام إعادة رسم قواعد الاشتباك في الجنوب اللبناني، بل وربما إدخال لبنان في مرحلة سياسية جديدة تُضعف من نفوذ الحزب داخليًا.
الدوافع الدولية: واشنطن وموسكو واليونيفيل
أي نقاش حول مزارع شبعا والجولان لا ينفصل عن الحسابات الدولية، الولايات المتحدة، بصفتها الراعي الأبرز لإسرائيل، ترى في أي ترتيبات حدودية فرصة لتخفيف الضغط عن تل أبيب على جبهتين في آن: جنوب لبنان وغزة.
واشنطن تدفع عادةً باتجاه مقايضات جزئية تضمن هدوءًا أمنيًا دون المساس بالاعتراف الأميركي بضم الجولان. في المقابل، موسكو التي عززت حضورها العسكري في سوريا منذ 2015، تحاول استخدام الورقة الحدودية لإثبات دورها كوسيط إقليمي قادر على ضمان استقرار الجبهة الشمالية، خصوصًا في ظل عجز دمشق عن فرض معادلات جديدة منفردة.
أما قوة اليونيفيل المنتشرة جنوبي لبنان، فتبقى أداة تقنية لمراقبة وقف الأعمال العدائية، لكنها عمليًا تتحول إلى عنصر ضغط سياسي، حيث تستخدم تقاريرها لإعطاء شرعية دولية لأي تفاهمات أمنية جديدة. وهكذا، تصبح مزارع شبعا ليست مجرد قضية لبنانية–سورية–إسرائيلية، بل عقدة إقليمية تتقاطع عندها مصالح واشنطن وموسكو والأمم المتحدة.
قرارات متراكمة بلا حسم
منذ حرب 1967، ظل الجولان السوري المحتل جزءًا من معادلة الصراع العربي–الإسرائيلي، حيث نصّ القرار 242 على مبدأ "الأرض مقابل السلام"، لكنه لم يحدد بشكل صريح وضع مزارع شبعا.
لاحقًا، ومع الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، أصدرت الأمم المتحدة تقارير تعتبر أن شبعا لا تدخل ضمن الأراضي اللبنانية المحتلة، بل تُصنف جزءًا من الجولان السوري الخاضع للاحتلال، بانتظار اتفاق ثنائي سوري–لبناني على الترسيم.
القرار 425، الذي طالب إسرائيل بالانسحاب من لبنان، استُخدم في حينه لتبرير استكمال الانسحاب، لكنه لم يشمل شبعا. أما القرار 1701 الصادر بعد حرب 2006، فقد أعاد التأكيد على ولاية قوات اليونيفيل وتعزيز دورها في مراقبة الخط الأزرق، لكنه لم يقدّم أي حل قانوني لمسألة شبعا. بذلك، تراكمت القرارات الأممية كإطار مرجعي دون أن تفتح الباب أمام حسم نهائي، تاركة الميدان مفتوحًا أمام التفسيرات المتضاربة والمزايدات السياسية.