استقبل الرئيس اللبناني ميشال عون، الثلاثاء، الموفد الأمريكي الخاص توماس براك، في لقاء يحمل أبعادًا سياسية وأمنية واقتصادية كبيرة، ويأتي في وقت يعاني فيه لبنان من ضغوط داخلية وخارجية متزامنة. خلال اللقاء، أكد الرئيس عون التزام بلاده الكامل بإعلان وقف الأعمال العدائية الصادر في 27 تشرين الثاني/نوفمبر وبورقة الأعمال المشتركة الأميركية-اللبنانية، مؤكدًا أن هذه الخطوة ليست مجرد بيان سياسي، بل تعكس حرص لبنان على تثبيت الأمن الداخلي وتعزيز دور المؤسسات الرسمية في إدارة السلم والحرب، فضلاً عن دعم جهود التعافي الاقتصادي والاجتماعي.
إعلان وقف الأعمال العدائية جاء بعد سنوات من التوترات الداخلية والإقليمية، وهو يمثل حصيلة جهود دبلوماسية طويلة هدفت إلى ضبط التوازنات الأمنية في لبنان بعد تجارب متعددة مع الفصائل المسلحة، بما فيها حزب الله والجماعات المحلية. هذا الإعلان يعكس رغبة الدولة اللبنانية في حصر سلطة القرار العسكري والأمني بيد المؤسسات الرسمية، وهو أمر أساسي لتجنب أي انزلاق نحو نزاعات مسلحة أو تصعيد حدودي، خصوصًا على الحدود الجنوبية مع إسرائيل والمناطق الحدودية المتأثرة بالتوترات الإقليمية.
الرئيس عون لم يكتف بالتأكيد على وقف الأعمال العدائية، بل جدد التزام لبنان بكافة بنود ورقة الأعمال المشتركة الأميركية-اللبنانية التي أقرها مجلس الوزراء اللبناني دون أي اجتزاء. هذه الورقة تشكل رؤية استراتيجية متكاملة للبنان، تقوم على تعزيز الأمن والاستقرار، وتحفيز الاقتصاد الوطني، وحماية نظام التعددية السياسية الذي يضمن مشاركة جميع الطوائف والجماعات اللبنانية في إدارة الدولة. في البعد الأمني، تؤكد الورقة على حصر السلاح وقرار الحرب والسلم في يد الدولة اللبنانية وحدها، وتعزيز قدرات الجيش والقوى المسلحة الرسمية لتكون الجهة الوحيدة المخولة بحماية الحدود وضمان الأمن الداخلي، وهو ما يعكس تجربة لبنان الطويلة مع الجماعات المسلحة ويحاول تفادي أي صراعات مستقبلية.
في البعد الاقتصادي، تشدد الورقة على أهمية إطلاق المبادرات الفردية وتشجيع القطاع الخاص اللبناني على الاستثمار داخليًا وخارجيًا، مستفيدًا من خبرات اللبنانيين في بلاد الانتشار ووجود رؤوس الأموال التي يمكن أن تسهم في تعزيز الاقتصاد الوطني. ويأتي هذا في وقت يعاني فيه لبنان من أزمة مالية حادة، انهيار العملة المحلية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، ما يجعل تحفيز الاقتصاد عبر القطاع الخاص ضرورة استراتيجية مرتبطة مباشرة بالاستقرار الأمني، إذ أن أي خلل أمني قد يؤدي إلى تراجع الاستثمارات وزيادة الأزمة الاقتصادية.
أما في البعد السياسي، فتؤكد الورقة على صون الديمقراطية التوافقية التي تضمن مشاركة كل المكونات اللبنانية في إدارة الدولة، وحماية حقوق جميع الجماعات أمام القانون، بما يقلل التوترات الطائفية والسياسية، ويعزز شعور الجميع بالمسؤولية والمشاركة في مستقبل البلاد. هذا النظام التوافقي يعكس سعي لبنان لتجاوز أزمات الماضي وحماية التنوع الاجتماعي والسياسي كأحد أهم ركائز الاستقرار.
خارجياً، أشاد الرئيس عون بالدعم الأمريكي المستمر للقوات المسلحة اللبنانية، والذي يشمل التدريب والتجهيز والتسليح، بما يمكن الجيش من مواجهة التحديات الداخلية والخارجية بكفاءة. ودعا إلى استمرار متابعة الاتصالات الأمريكية مع الدول العربية والغربية الصديقة للبنان لتعزيز مسارات إعادة الإعمار والنهوض الاقتصادي، وإيجاد حلول عملية للأزمات المالية والاجتماعية المتفاقمة. وأكد الجانب الأمريكي أن رؤيته لإنقاذ لبنان تقوم على ثلاث ركائز: استتباب الأمن عبر حصر السلاح بيد الدولة، تعزيز الاقتصاد من خلال الابتكار والمبادرة الفردية، وصون النظام الديمقراطي التوافقي، ما يعكس فهمًا دقيقًا للتحديات الداخلية للبنان وضرورة دمج الحلول الأمنية مع الاقتصادية والسياسية بشكل متكامل.
اليوم، لبنان يقف على مفترق طرق بين الحفاظ على استقرار داخلي هش والتعامل مع التوترات الإقليمية المتزايدة، سواء على الحدود الجنوبية مع إسرائيل أو فيما يتعلق بالتدخلات في سوريا وأزمات اللاجئين الفلسطينيين. ومع ذلك، يسعى لبنان لاستثمار دعم المجتمع الدولي لتحقيق إعادة الإعمار وتحفيز الاقتصاد الوطني، بما يتيح للمواطن اللبناني فرصًا أفضل للحياة والاستقرار. الالتزام بإعلان وقف الأعمال العدائية وبورقة الأعمال المشتركة يمثل محاولة لبناء رؤية شاملة لمستقبل البلاد تجمع بين الأمن والاستقرار الاقتصادي وصون التعددية السياسية والاجتماعية، في إطار دعم المجتمع الدولي، ويضع لبنان أمام تحدٍ مزدوج: تنفيذ الالتزامات الرسمية داخليًا وتحقيق تنمية اقتصادية، مع الحفاظ على علاقات متوازنة مع القوى الإقليمية والدولية بما يضمن حماية السيادة الوطنية واستقرار الدولة والمواطن على حد سواء.
لبنان، الذي يحمل إرثًا طويلًا من الصراعات الداخلية والحروب الأهلية، ظل لسنوات طويلة يعيش في ظل توازن هش بين الفصائل السياسية والطائفية، مع انتشار مسلح محدود خارج سلطة الدولة. بعد الحرب الأهلية التي دامت خمسة عشر عامًا (1975–1990)، حاولت الدولة اللبنانية فرض هيمنة قانونية على الأراضي، إلا أن الجماعات المسلحة، سواء كانت محلية أو مرتبطة بأحزاب وإقليميات، استمرت في التأثير على المشهد السياسي والأمني. هذه التجربة التاريخية وضعت لبنان في وضع فريد، حيث أصبح حصر السلاح وقرار الحرب والسلم بيد الدولة مسألة حيوية لبقائه واستقراره.
إعلان وقف الأعمال العدائية الصادر في 27 تشرين الثاني/نوفمبر جاء بعد جهود دبلوماسية متواصلة برعاية أمريكية وفرنسية، بهدف ضبط التوازنات الأمنية بعد سلسلة من التصعيدات على الحدود الجنوبية مع إسرائيل والحوادث الطائفية الداخلية. الإعلان يهدف إلى منع أي استخدام غير رسمي للسلاح خارج إطار الدولة، وهو يمثل محاولة لتطبيق مبدأ الدولة كجهة وحيدة مسؤولة عن الأمن والاستقرار، الأمر الذي يعكس التعقيدات الناتجة عن العلاقات الإقليمية، خصوصًا مع وجود حزب الله كقوة مسلحة سياسية في جنوب لبنان، والتوتر المستمر مع إسرائيل على طول الحدود.
على الصعيد الاقتصادي، لبنان يواجه أزمة مالية حادة منذ 2019، مع انهيار العملة الوطنية، ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وتراجع الاحتياطيات النقدية في المصرف المركزي. هذه الأزمة أعادت رسم الخريطة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، حيث أصبح الاستثمار المحلي والخارجي شبه متوقف، والقطاع الخاص في حالة ركود حاد. ورقة الأعمال المشتركة الأميركية-اللبنانية جاءت لتضع خارطة طريق اقتصادية تقوم على تحفيز الابتكار والمبادرة الفردية، وتشجيع الاستثمارات الداخلية والخارجية، بما في ذلك في بلاد الانتشار اللبناني، والتي تمثل مصدرًا مهمًا للتمويل والخبرة. الهدف من هذه الورقة هو ربط الاستقرار الأمني بالاقتصادي، بحيث تصبح التنمية الوطنية أداة للحفاظ على الأمن ومنع انزلاق البلاد نحو الفوضى الاجتماعية.
السياسة الداخلية اللبنانية أيضًا تشكل جزءًا أساسيًا من الخلفية، حيث يعتمد النظام اللبناني على الديمقراطية التوافقية لضمان مشاركة جميع الطوائف والجماعات في إدارة الدولة. هذا النظام يضمن المساواة أمام القانون ويحمي التنوع الاجتماعي والسياسي، ولكنه في الوقت نفسه يُنشئ صعوبات في اتخاذ القرارات السريعة أو الإصلاحات العميقة بسبب الحاجة للتوافق بين مختلف الأطراف. الالتزام بورقة الأعمال المشتركة يعكس محاولة لتطبيق هذا النظام التوافقي على المستوى الأمني والاقتصادي، لضمان أن تكون أي إجراءات متوازنة وتستفيد جميع المكونات اللبنانية.
إقليميًا، لبنان يقع في قلب صراعات الشرق الأوسط المعقدة. الحدود الجنوبية مع إسرائيل تمثل نقطة حساسة دائمًا، بينما يشهد لبنان ضغوطًا مرتبطة بالحرب في سوريا، وجود اللاجئين الفلسطينيين، والتدخلات الإقليمية من قوى متعددة. هذه التحديات تجعل الدولة اللبنانية في حاجة ماسة إلى دعم دولي مستمر لضمان قدرتها على حماية سيادتها والحفاظ على استقرارها الداخلي. الدعم الأمريكي، الذي يشمل تدريب الجيش، تسليحه، وتمويل مشاريع إعادة الإعمار، يمثل عنصرًا حيويًا في قدرة لبنان على مواجهة هذه التحديات، كما يخلق بيئة يمكن فيها تطبيق الورقة المشتركة بشكل فعلي.
على المستوى الدولي، يمكن النظر إلى الالتزام اللبناني بإعلان وقف الأعمال العدائية وبورقة الأعمال المشتركة كخطوة تعكس توافقًا بين الاستراتيجية الوطنية اللبنانية والمصالح الدولية، خصوصًا للولايات المتحدة وفرنسا، اللتين تسعيان لضمان أن تكون الدولة اللبنانية هي الجهة الوحيدة المخولة بالقرار الأمني والسياسي، وتجنب تحول لبنان إلى ساحة للصراعات الإقليمية أو الفوضى الداخلية.
باختصار، الخلفية السياسية والاقتصادية والأمنية للبنان تجعل الالتزام الرسمي بإعلان وقف الأعمال العدائية وبورقة الأعمال المشتركة ليس مجرد موقف سياسي، بل يمثل جزءًا من استراتيجية شاملة للبقاء والاستقرار الوطني، تجمع بين ضبط الأمن، تحفيز الاقتصاد، وحماية النظام التوافقي الذي يضمن مشاركة جميع المكونات اللبنانية، مع الاستفادة من الدعم الدولي لضمان تنفيذ هذه الاستراتيجية بشكل عملي وفعّال.