في خطوة أثارت الكثير من التساؤلات، أعلن "مجلس سوريا الديمقراطية" (مسد) عن تأجيل "الملتقى التشاوري للمبادئ الدستورية" الذي كان مقرراً عقده في مدينة الرقة، بعد ضغوط غربية مباشرة، أبرزها من الولايات المتحدة وفرنسا، على قائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي. القرار الذي جاء تحت شعار "تهيئة بيئة أكثر ملاءمة للحوار الوطني" لم يخفِ خلفه تداعيات سياسية وعسكرية أعمق تتعلق بمستقبل سوريا الجديدة بعد سقوط نظام الأسد، ومسار العلاقة بين دمشق و"قسد".
المصادر المطّلعة أكدت أن ممثلي واشنطن وباريس أجروا اتصالات مباشرة مع قيادات "قسد" في الأيام الماضية، حاثينهم على تأجيل الملتقى، خشية أن يؤدي انعقاده إلى تعقيد عملية الحوار مع الحكومة السورية، خصوصاً بعد تجربة "كونفرانس المكونات" في الحسكة مطلع الشهر الجاري، والتي تركت توترات بين الطرفين وأظهرت هشاشة الأجواء السياسية في شمال شرقي سوريا.
وكان من المقرر أن يضم الملتقى التشاوري أحزاباً وتيارات سياسية كردية وعربية وسريانية وآشورية، إلى جانب شخصيات مستقلة ومثقفين من مختلف المناطق السورية، فضلاً عن وجهاء وشيوخ عشائر عربية، وممثلين عن النقابات والمنظمات المحلية، وشخصيات من الطائفتين الدرزية والعلوية. وكان الهدف المعلن هو فتح باب الحوار الوطني والمساهمة في صياغة المبادئ الدستورية الجديدة، وهو ما يندرج ضمن المسار السياسي الذي تتبناه الحكومة السورية بعد سقوط نظام الأسد، والذي يسعى لتوحيد المؤسسات وإشراك كافة المكونات السورية في العملية السياسية.
رغم التصميم الظاهر لـ"مسد" و"قسد" على المضي في الملتقى، فإن الضغوط الغربية أظهرت قدرة الولايات المتحدة وفرنسا على التأثير المباشر على تحركات "قسد" وضبط خطواتها السياسية في شمال شرقي سوريا. المراقبون يرون أن التراجع عن الملتقى ليس مجرد تأجيل شكلي، بل خطوة استراتيجية لضبط أي مبادرات قد تصطدم بالمصالح الغربية، خصوصاً أن واشنطن وبباريس مهتمتان بالحفاظ على تأثيرهما على "قسد" وضمان استمرار التنسيق معها في ملفات الأمن والاستقرار الإقليمي.
التحليل السياسي يشير إلى أن التأجيل يعكس توازنات دقيقة بين الحكومة السورية و"قسد"، مع تدخل قوى دولية تحاول ضمان أن أي خطوات دستورية أو سياسية لا تعيق مصالحها في المنطقة. فـ"قسد"، رغم كونها قوة محلية لها حضور عسكري وإداري، تبقى تحت تأثير الضغط الدولي في قراراتها الكبرى، وهو ما يثير تساؤلات حول مدى استقلالية القرار السياسي في مناطق الإدارة الذاتية.
كما أن التأجيل يكشف عن هشاشة التنسيق الداخلي بين مكونات "قسد"، حيث توجد أطراف كانت مصممة على عقد الملتقى، بينما وجدت نفسها مضطرة للانسحاب أمام الضغوط الدولية. هذا التراجع قد يولد توترات داخلية، إذ أن بعض الأطر السياسية والحزبية في شمال شرقي سوريا تعتبر أن الملتقى كان فرصة حقيقية لتعزيز شرعيتها السياسية واستعراض قدرتها على إدارة الحوار الوطني.
من جهة أخرى، يسلط هذا التأجيل الضوء على الدور الغربي في سوريا الجديدة، حيث يبدو أن الولايات المتحدة وفرنسا تسعيان للحفاظ على موقعهما السياسي والأمني في شمال شرقي سوريا، وتوجيه أي تحركات محلية بما يخدم مصالحهما، سواء على صعيد حماية النفوذ العسكري أو السيطرة على الموارد الحيوية، أو ضمان استمرار دور "قسد" كأداة ضغط على الحكومة السورية.
الملفت أن هذا التأجيل لم يُلغِ فكرة الحوار بشكل كامل، لكنه أعاد ضبط الإيقاع السياسي، وترك الباب مفتوحاً أمام مبادرات مستقبلية، شرط أن تكون ضمن ما يعتبره الغرب مناسباً ومتحكماً فيه. كواليس ملتقى الرقة تكشف بالتالي حجم التعقيدات السياسية في سوريا الجديدة، وحقيقة أن أي تغيير دستوري أو إصلاح سياسي لن يكون بعيداً عن تأثير الدول الكبرى، وسط صراع دقيق بين الاستقلال الوطني والمصالح الدولية.