يُعد الفساد في سوريا ظاهرة مترسخة منذ عقود، وقد تحوّل خلال حكم النظام السابق من ممارسات سرّية تُدار في الخفاء إلى شبكات علنية مرتبطة بالسلطة وأجهزتها الأمنية، حيث أصبح الموظف الفاسد محمياً يمارس نفوذه بلا رادع، والمواطن مضطراً لدفع الرشاوى للحصول على حقوقه. هذه الثقافة، التي تشكّلت عبر سنوات طويلة، تركت إرثاً ضخماً من الممارسات غير القانونية التي يصعب محوها بين ليلة وضحاها.
مع سقوط النظام وبروز حكومة جديدة، باتت مواجهة الفساد إحدى أولويات الدولة. تؤكد السلطات الجديدة أن مكافحة الفساد بجميع أشكاله ضرورة حيوية لتعزيز الثقة بين المواطنين والمؤسسات، وحماية الموارد العامة، وإعادة بناء الدولة على أسس قانونية ومؤسسية سليمة.
استمرار شبكات الفساد في المؤسسات التعليمية
تتجلّى إحدى صور الفساد في قطاع التعليم، حيث بلغ بيع المواد الجامعية حد التجارة العلنية بين بعض المدرسين والطلاب، مع تسعير يصل أحياناً إلى 150-200 دولار للمادة. وقد شرعت بعض الهيئات الطلابية في رصد مكافآت مالية لأي طالب يقدم دليلاً موثقاً على حالات الفساد، ما ساهم في كشف تجاوزات وإحالة المتورطين إلى التحقيق. هذه الإجراءات تمثّل خطوات مهمة لكسر حلقة الفساد، لكنها تكشف أيضاً عن مدى تعمّق الظاهرة واستمرارها حتى في ظل الحكومة الجديدة.
الرشاوى والتأثير على الإجراءات الإدارية
لا يقتصر الفساد على التعليم، بل يمتد إلى المعاملات القضائية والإدارية اليومية. فالحصول على أحكام قضائية أو تسجيل الولادات أو إتمام معاملات رسمية يتطلب أحياناً دفع مبالغ مالية لتسريع الإجراءات، وهو ما يشير إلى استمرار وجود سماسرة ومصلحين يعملون خارج إطار القانون، مستفيدين من ضعف الرقابة ونقص الموارد.
وتشير التجارب اليومية إلى أن المواطنين يواجهون تحديات مع الموظفين في الدوائر الحكومية، حيث يتطلب استكمال المعاملات الرسمية أحياناً دفع “إكراميات” مقابل تسريعها، سواء في تسجيل العقارات أو إصدار وثائق قانونية. وتبين هذه الحالات أن النظام السابق ترك إرثاً من الشبكات غير القانونية التي أعادت تشكيل نفسها لتتلاءم مع الوضع الراهن.
مكاتب الفساد وتأثيرها على القضاء
تشير المحاميات العاملات في مجال القضاء إلى أن بعض مكاتب الخدمات القانونية المستحدثة بجانب قصر العدل تُمكّن الأفراد من الحصول على وثائق مهمة مثل "لا حكم عليه" أو "بيان أسبقيات" مقابل مبالغ مالية كبيرة، في وقت يمكن إنجازها بشكل قانوني خلال أيام قليلة فقط. هذه الممارسات تعكس استمرار هيمنة النفوذ الشخصي على المؤسسات الرسمية، وغياب المحاسبة الفعلية على المخالفين، ما يزيد من تعقيد المشهد القانوني.
التحديات الهيكلية والثقافية
إلى جانب التحديات المالية، يواجه المجتمع السوري عقبات ثقافية وقانونية في مكافحة الفساد، إذ يفتقد أغلب المواطنين إلى الوعي بحقوقهم وآليات تقديم الشكاوى، كما يخشى كثيرون من الانتقام أو المضايقات في حال كشفهم للمتورطين. هذا القصور الثقافي يعقّد مهمة الحكومة الجديدة، التي تحتاج إلى تعزيز آليات الرقابة والتفتيش، وتأمين حماية فعّالة لمقدمي الشكاوى، إلى جانب تدريب كوادر أمنية وإدارية على التعامل مع قضايا الفساد بكفاءة.
تفكك بطيء أم إعادة إنتاج؟
رغم سقوط النظام السابق، يبدو أن الفساد في سوريا لم يتوقف، بل يعيد إنتاج نفسه في ظل الحكومة الجديدة بأساليب أكثر ملاءمة للظروف الراهنة. هناك علامات على تفكك بعض الشبكات التقليدية، وظهور إجراءات رادعة في حالات محددة، لكن المدى الأكبر يشير إلى استمرار الانتهاكات، سواء على مستوى التعليم، القضاء، أو المعاملات الإدارية.
التحدي الأساسي أمام الحكومة الجديدة هو بناء مؤسسات شفافة قادرة على حماية الحقوق العامة وضمان العدالة. ومن جهة أخرى، يتطلب كسر إرث الفساد جهداً مجتمعياً متكاملًا، يشمل التشريعات، الرقابة، التوعية، وإشراك المجتمع المدني في متابعة الأداء الحكومي. هذه العملية تحتاج إلى وقت، لكنها ضرورية لتجنب إعادة إنتاج شبكات الفساد بمستويات جديدة وأوسع تأثيراً.
الطريق نحو سوريا جديدة
إن أي محاولة لإعادة بناء سوريا على أسس ديمقراطية وشفافة لا يمكن أن تنجح بدون معالجة جذور الفساد في جميع القطاعات. ومن المهم أن تعمل الحكومة الجديدة بالتوازي مع المجتمع المدني والإعلام والقضاء لضمان استمرارية الرقابة والمحاسبة، بما يعزز الثقة بين الدولة والمواطن، ويؤسس لمرحلة انتقالية أكثر استقراراً وفعالية.
الواقع الحالي يشير إلى أن مكافحة الفساد في سوريا ليست مهمة قصيرة المدى، بل عملية مستمرة تتطلب إرادة سياسية قوية، قدرات مؤسسية، وتعاون شعبي واسع، لضمان أن يكون الفساد استثناءً وليس قاعدة في سوريا الجديدة.