في تطور سياسي غير مسبوق منذ سقوط نظام بشار الأسد، استقبل الرئيس السوري أحمد الشرع في العاصمة دمشق وفداً أميركياً رفيع المستوى برئاسة المبعوث الخاص إلى سوريا توماس باراك، وضمّ الوفد السيناتورة جين شاهين، عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، إضافة إلى النائب جو ويلسون عن مجلس النواب الأميركي.
الزيارة حملت دلالات سياسية كبرى، إذ شكّلت أول حضور رسمي لوفد من الحزبين الجمهوري والديمقراطي إلى دمشق بعد عقدين من القطيعة، وجاءت متزامنة مع إعلان واشنطن رفع العقوبات المفروضة على سوريا بموجب قانون "قيصر" وأوامر تنفيذية سابقة.
أجواء اللقاء ورسائل متبادلة
وبحسب الرئاسة السورية، جرى خلال اللقاء بحث مستجدات الأوضاع في سوريا والمنطقة، وسبل تعزيز التعاون بما يخدم الأمن والاستقرار. الرئيس الشرع، الذي يقود حكومة جديدة تحاول إعادة بناء مؤسسات الدولة بعد مرحلة الانقسام والحرب، شدّد على أن "الشراكات الدولية لن تكون على حساب السيادة الوطنية، وإنما ضمن رؤية مشتركة لتحقيق السلام والتنمية".
في المقابل، أكّد أعضاء الوفد الأميركي على رغبة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في دعم سوريا الجديدة، وطيّ صفحة العقوبات التي أثقلت الاقتصاد السوري طوال عقدين. النائب جو ويلسون وصف اللقاء مع الرئيس الشرع بأنه "شرف كبير"، مشيراً إلى أن الوقت قد حان لإنهاء قانون قيصر بشكل كامل، باعتباره يمثل أولوية مدعومة من الحزبين.
وأضاف ويلسون: "لطالما ألهمني الشعب السوري، سواء في مخيمات اللاجئين أو في لقاءاتي مع أبناء الجالية السورية في الولايات المتحدة. واليوم أرى دمشق بعينيّ، بعد أن كان نظام الأسد قد أعلنني عدواً للدولة".
مواقف السيناتورة شاهين
السيناتورة جين شاهين، التي تُعد أول عضوة في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ تزور سوريا بعد سقوط الأسد، ركّزت على أهمية إشراك جميع المكونات العرقية والدينية في هياكل الحكم الجديدة. وقالت في بيان لها عقب اللقاء إنها ناقشت مع الرئيس الشرع "أولويات الولايات المتحدة في دعم الاستقرار الإقليمي، وتعزيز المجتمع المدني، وضمان المساءلة عن جرائم الحرب".
كما التقت شاهين وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل هند قبوات، حيث تم البحث في قضايا المصالحة الوطنية، إعادة الإعمار، ودعم الفئات الأكثر تضرراً. البيان الصادر عن مكتبها أوضح أيضاً أنها التقت القائد العام لـ"قوات سوريا الديمقراطية"، مظلوم عبدي، لمناقشة دمج "قسد" في القوات المسلحة السورية، وهي نقطة حساسة تعكس محاولات واشنطن ضمان دور سياسي وعسكري لهذه القوات في مرحلة ما بعد الحرب.
حوارات مع المجتمع المدني والديني
في خطوة لافتة، عقدت شاهين اجتماعاً مع قادة دينيين من مختلف المذاهب والأعراق، إضافة إلى ممثلين عن المجتمع المدني وعدد من الشخصيات الثقافية. واعتبرت أن هذا التنوع بحد ذاته "دليل على القاسم المشترك للسوريين: بناء بلد خالٍ من العنف، قادر على استيعاب الجميع".
وأضافت في تغريدة: "إن سوريا القادرة على الصمود بعد تحررها من نظام الأسد ستكون حجر الزاوية لاستقرار الشرق الأوسط، وأميركا مستعدة لتكون شريكاً حقيقياً في هذا الطريق".
البعد الاستراتيجي: رفع العقوبات
الزيارة جاءت مترافقة مع إعلان وزارة الخزانة الأميركية رفع جميع العقوبات المفروضة على سوريا منذ عام 2004، بما في ذلك تلك المرتبطة بقانون "قيصر". القرار استند إلى "تغيّر الظروف بشكل جذري بعد الإجراءات الإيجابية التي اتخذتها الحكومة السورية الجديدة"، بحسب نص الأمر التنفيذي الصادر في 30 حزيران/يونيو الماضي.
عملياً، هذا يعني رفع حالة الطوارئ الاقتصادية التي كبّلت الاقتصاد السوري طوال أكثر من عشرين عاماً، وفتح الباب أمام استثمارات وإعادة إعمار واسعة، وإن ظلّت بعض العقوبات الفردية قائمة بحق أشخاص أو شبكات مرتبطة بانتهاكات أو أنشطة غير قانونية.
قراءة سياسية: عودة دمشق إلى المشهد الدولي
تحمل زيارة الوفد الأميركي أكثر من رسالة. أولاً، هي إشارة إلى أن واشنطن مستعدة للتعامل مع القيادة الجديدة في دمشق بوصفها شريكاً محتملاً، لا خصماً بالضرورة. ثانياً، تعكس تحوّلاً في مقاربة الحزبين الأميركيين تجاه الملف السوري، حيث أظهر وجود شاهين (الديمقراطية) وويلسون (الجمهوري) معاً رغبة في صياغة مقاربة مشتركة.
من جانب آخر، فإن رفع العقوبات يمهّد لتغيير البيئة الاقتصادية والسياسية في سوريا، ويمنح الحكومة الجديدة هامشاً للتحرك داخلياً وخارجياً. لكن ذلك لا يلغي التحديات المعقدة المرتبطة بملفات العدالة الانتقالية، دمج القوى العسكرية المختلفة، وإعادة بناء الثقة بين المواطنين والدولة.
خاتمة: مرحلة جديدة أمام اختبار الزمن
اللقاء في دمشق لم يكن مجرد زيارة بروتوكولية، بل خطوة أولى في إعادة إدماج سوريا في النظام الدولي بعد سنوات من العزلة. ومع أن التصريحات الأميركية شدّدت على دعم الاستقرار والمصالحة، فإن الامتحان الحقيقي سيبقى في قدرة الحكومة السورية على تحويل هذه الانفتاحات إلى إصلاحات ملموسة تعيد الثقة للمواطنين.
هكذا، وبينما يصف البعض الزيارة بأنها "لحظة تاريخية"، يراها آخرون بداية طريق طويل محفوف بالتحديات. لكن المؤكد أن دمشق، وللمرة الأولى منذ عقدين، عادت إلى الواجهة الدولية كعاصمة تستقبل وفوداً رفيعة، لا كساحة صراع فقط.