اليرموك.. نهر صغير يرسم مستقبل كبير

رزان الحاج

2025.08.25 - 04:08
Facebook Share
طباعة

 
في الجنوب السوري، وعلى حدود تمتد إلى الأردن والجولان المحتل، يتدفق نهر اليرموك كخيط مائي دقيق لكنه شديد الأهمية. ورغم قصره النسبي –إذ لا يتجاوز طوله 57 كيلومترًا– فإن لهذا النهر وزنًا استراتيجيًا يفوق أضعاف حجمه الجغرافي. فهو ليس مجرد مجرى مائي يروي الحقول، بل خط حياة تتقاطع عنده ملفات الزراعة والأمن المائي والسيادة، وأحيانًا الأمن الإقليمي.


اليوم، وبعد عقود من التوترات وسنوات من سوء الإدارة، يفتح اليرموك صفحة جديدة من التعاون بين الأردن وسوريا. صفحة يتطلع إليها كثيرون كفرصة تاريخية لإرساء تقاسم عادل وشفاف للمياه، بعيدًا عن الفوضى السابقة والعرقلة السياسية التي عطّلت المشاريع المشتركة.


نهر على مفترق الحدود
ينبع نهر اليرموك من مرتفعات حوران وجبل العرب، وينحدر غربًا ليشكل واديًا فاصلاً بين سوريا والأردن قبل أن يصب في نهر الأردن. وعلى ضفتيه تنتشر قرى وبلدات لطالما اعتمدت على مياهه لريّ الحقول وبساتين الزيتون والحمضيات، ولتأمين مياه الشرب.


لكن التغير المناخي وتراجع الهطول المطري جعلا النهر عرضة للجفاف المتكرر. ومع حفر عشرات الآبار غير المرخصة خلال السنوات الماضية، تقلّص التدفق إلى مستويات خطيرة، الأمر الذي أثّر مباشرة على حياة المزارعين في كل من درعا وحوض اليرموك السوري، وفي وادي الأردن الزراعي.


سد الوحدة.. مشروع معطّل عاد للحياة

في عام 2004، افتتح الأردن وسوريا مشروع سد الوحدة على مجرى النهر، وكان الهدف منه تخزين المياه وتنظيم استخدامها بشكل عادل. غير أن المشروع لم يحقق أهدافه لسنوات طويلة بسبب سوء الإدارة والاستنزاف الجائر، ما حوّله إلى رمز لفشل التعاون أكثر من كونه أداة لحل الأزمة.


أما اليوم، ومع التفاهمات الجديدة، فإن السد يستعيد أهميته بوصفه قلب مشروع إدارة المياه في الحوض. حيث جرى الاتفاق على آلية تشغيل مشتركة، وإغلاق الآبار المخالفة التي كانت تستهلك جزءًا كبيرًا من المخزون، إضافة إلى إدخال أنظمة تحكم إلكتروني تتيح توزيع المياه بفعالية أكبر.


أمن مائي.. وأمن غذائي
الأردن يصنف ضمن أفقر ثلاث دول مائيًا في العالم، إذ لا يتجاوز نصيب الفرد 100 متر مكعب سنويًا، بينما الحد العالمي للفقر المائي هو 500 متر مكعب. ومن هنا، فإن كل متر مكعب من مياه اليرموك يعني الكثير لاقتصاد البلاد وأمنها الغذائي.


في المقابل، سوريا الخارجة من حرب طويلة، تحتاج إلى إعادة بناء قطاعها الزراعي الذي تضرر بشدة، خصوصًا في محافظة درعا التي كانت تعرف يومًا بأنها سلة خضار وفاكهة للبلاد. وعليه، فإن إدارة رشيدة لمياه اليرموك قد تفتح بابًا لنهضة زراعية تسهم في استقرار المجتمعات المحلية وإعادة الحياة إلى مناطق أنهكتها الأزمات.


التكنولوجيا تدخل المعادلة
التفاهم الجديد لم يقتصر على تبادل الحصص المائية فقط، بل شمل أيضًا التقنيات الحديثة. فقد اتفق الطرفان على تدريب كوادر سورية على إدارة السدود باستخدام أنظمة المراقبة والتحكم الإلكتروني، بما يضمن دقة أكبر في توزيع المياه وتقليل الهدر. كما طُرح خيار اللجوء إلى الاستمطار الصناعي لتعزيز الموارد المائية في المواسم الشحيحة.


هذه الخطوات، إذا طُبقت بجدية، قد تغيّر شكل إدارة الموارد المائية في المنطقة، وتحولها من ملف نزاع تقليدي إلى قصة نجاح في التعاون الإقليمي.


إسرائيل.. قلق دائم من ضفاف اليرموك
رغم أن الاتفاق سوري–أردني بحت، فإن تأثيراته تمتد إلى أبعد من ذلك. فإسرائيل تراقب عن كثب كل ما يتعلق باليرموك، لأنه يغذي نهر الأردن وبحيرة طبريا، اللتين تمثلان مصدرًا رئيسيًا لمياهها العذبة.


تاريخيًا، اعترضت تل أبيب على مشاريع السدود في الحوض، بزعم أنها تقلص تدفق المياه نحو طبريا. واليوم، من الطبيعي أن يثير تنسيق أكبر بين عمان ودمشق قلقًا إسرائيليًا، خصوصًا إذا نجح في استثمار المياه بكفاءة وحرمان الاحتلال من أي ذرائع للتدخل.


فرصة تاريخية أم اختبار جديد؟
من السهل أن يُكتب على الورق “توزيع عادل للمياه”، لكن التجربة تقول إن التنفيذ أصعب بكثير. فما زال التحدي الحقيقي أمام الأردن وسوريا هو الالتزام بالشفافية، وتبادل البيانات بشكل دوري، وعدم السماح بعودة الفوضى التي استنزفت الحوض في السابق.


ومع ذلك، ثمة تفاؤل هذه المرة، لسبب بسيط: كلا الطرفين بحاجة ماسة لهذا التعاون. فالأردن لا يحتمل مزيدًا من الضغوط المائية، وسوريا لا تستطيع إعادة بناء زراعتها دون إدارة رشيدة للموارد. ومع سقوط النظام القديم وما ارتبط به من عراقيل، صار الطريق أكثر انفتاحًا أمام تفاهمات حقيقية.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 10 + 8