نقلت وسائل الإعلام الروسية عن وزير الخارجية سيرغي لافروف تأكيده أن هناك مساعٍ غربية لإفشال أي تقدم في المحادثات الخاصة بالأزمة الأوكرانية، مشيراً إلى أن شروط كييف التعجيزية ومواقف العواصم الداعمة لها تجعل فرص التوصل إلى تسوية ضعيفة في الوقت الراهن.
الإشارة إلى "تعطيل المفاوضات" تكشف عن أزمة أعمق من مجرد توقف في المسار الدبلوماسي فمنذ اندلاع الحرب في فبراير 2022 لم تنجح جولات الحوار المبكرة في إسطنبول ومينسك في إحداث اختراق، ومع مرور الوقت تحول الملف التفاوضي إلى أداة سياسية تستخدمها الأطراف لتحقيق مكاسب دعائية، روسيا تتحدث عن استعدادها للحوار لكن وفق شروط تضمن مصالحها الأمنية، في حين تركز كييف على استعادة كامل الأراضي التي خسرتها منذ بداية الصراع هذه التناقضات جعلت من كل محاولة للوساطة الدولية عملاً محفوفاً بالفشل.
الجذور العميقة للأزمة تكمن في أن الحرب تجاوزت كونها مواجهة ثنائية لتصبح ساحة اختبار للإرادة بين روسيا والغرب موسكو ترى في توسع حلف الناتو نحو حدودها تهديداً وجودياً، وتعتبر أن العملية العسكرية جاءت رداً على ذلك. أما الولايات المتحدة وحلفاؤها فينظرون إلى الأزمة باعتبارها معركة للحفاظ على التوازن الدولي ومنع روسيا من فرض وقائع جديدة بالقوة.
اختلاف القراءات لطبيعة الحرب جعل من المفاوضات مجرد انعكاس لهذا الصراع الأكبر.
الأسباب المباشرة التي أدت إلى تعثر أي محاولة سياسية متعددة، أولها إصرار أوكرانيا على شرط الانسحاب الروسي الكامل من جميع المناطق التي سيطرت عليها القوات الروسية منذ 2022م، وهو مطلب ترى موسكو أنه غير واقعي ثانيها أن الغرب لا يريد أن يظهر وكأنه يدفع كييف نحو التنازل، خاصة أن الرأي العام في أوروبا ما زال متعاطفاً مع الجانب الأوكراني رغم الإرهاق الاقتصادي.
ثالثها أن روسيا تسعى لأن تكون أي تسوية بمثابة اعتراف ضمني بشرعية مطالبها في ما يتعلق بالهوية الروسية وحقوق الناطقين بالروسية داخل أوكرانيا، هذه النقاط مجتمعة تجعل أي حوار يسير في حلقة مفرغة.
هناك أيضاً اعتبارات داخلية لدى الأطراف.ط الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بنى شرعيته على خطاب المقاومة ورفض تقديم التنازلات، أي مرونة كبيرة في هذا الملف قد تؤدي إلى تراجع شعبيته واتهامه بخيانة دماء الجنود الذين قُتلوا في الحرب أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فيقدم الصراع باعتباره معركة دفاع عن الأمة الروسية.
الوساطات الدولية، سواء من تركيا أو الأمم المتحدة أو بعض الدول الآسيوية، فشلت في تجاوز هذه العقبات.
كل مبادرة كانت تصطدم بحائط صلب من المواقف المتعارضة، ومع الوقت فقدت الأطراف ثقتها في جدوى الجلوس على طاولة واحدة، حتى الحديث عن وساطات مشتركة بين الولايات المتحدة وروسيا يظل بعيد المنال، لأن الطرفين يستخدمان الحرب لقياس مدى قدرتهما على فرض إرادتهما على الساحة الدولية.
التداعيات الناتجة عن هذا الانسداد الدبلوماسي كبيرة استمرار القتال يعني استنزاف الموارد البشرية والمالية لدى الطرفين أوكرانيا تعتمد بشكل شبه كامل على المساعدات الغربية التي تثقل كاهل دافعي الضرائب في أوروبا والولايات المتحدة، روسيا تواجه بدورها ضغوطاً اقتصادية بفعل العقوبات لكنها تراهن على قدرتها على الصمود بفضل موارد الطاقة والتحالفات مع دول كالصين والهند إطالة أمد الحرب تجعل من احتمالات التوسع أو الانزلاق إلى مواجهات أوسع في أوروبا الشرقية سيناريو مطروحاً، وهو ما يقلق الاتحاد الأوروبي بشكل خاص.
على الصعيد العالمي يضع استمرار الأزمة ضغوطاً على قضايا دولية أخرى انشغال القوى الكبرى بالحرب الأوكرانية أضعف الاستجابة للتحديات الاقتصادية والبيئية، كما أدى إلى تراجع الاهتمام بالنزاعات الأخرى في الشرق الأوسط وأفريقيا.
هذا التركيز المفرط على أوكرانيا يساهم في إعادة تشكيل أولويات النظام الدولي بطريقة قد تكون لها آثار طويلة الأمد.
أن المأزق التفاوضي ليس مجرد نتيجة لتشدد كييف أو تصلب موسكو، وإنما انعكاس لتناقضات أوسع تتعلق بمستقبل الأمن الأوروبي وبالتوازن بين القوى الكبرى ما أشار إليه لافروف يعكس إدراك روسيا أن خصومها يسعون لإطالة أمد الحرب، فيما ترى كييف أن أي مرونة تعني إضفاء الشرعية على ما تعتبره احتلالاً، وبذلك تظل المفاوضات رهينة مواقف استراتيجية متناقضة، فيما يبقى الشعب الأوكراني والاقتصاد الأوروبي أبرز الخاسرين من استمرار الانسداد السياسي.