المغيّر.. قرية تواجه الاحتلال بلا سقف نجاة

2025.08.24 - 09:59
Facebook Share
طباعة

 بين جبال الضفة الشرقية، تختبئ قرية صغيرة اسمها "المغيّر"، لكنها صارت عنواناً كبيراً في الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي. قرية لم يتجاوز عدد سكانها أربعة آلاف نسمة، لكنها دفعت – وما تزال – ثمناً باهظاً لموقعها وجغرافيتها وموقفها الرافض للاستيطان.

 

تاريخ مقاومة محفور بالدم والرماد

ليست المغيّر وليدة الأحداث الأخيرة. فمنذ عام 1968، كانت أول قرية فلسطينية تفرض عليها سلطات الاحتلال حظر التجول عقاباً على مقاومتها، يومها لم تستطع المدرعات دخولها بسبب وعورة الطريق، فلجأ الجيش إلى المروحيات. هُدمت خمسة منازل حينها، وبدأ سجل طويل من الاستهداف الذي لم ينقطع حتى اليوم.

على مرّ العقود، تكرّر المشهد: مصادرات أراضٍ، اقتلاع أشجار زيتون، اعتقالات، واعتداءات المستوطنين. حتى باتت المغيّر نموذجاً لما تتعرض له قرى "البوابة الشرقية" المطلة على الأغوار، حيث يسعى الاحتلال إلى تفريغ الأرض من أهلها وربط المستوطنات بعضها ببعض.

 

حصار واقتلاع بالجملة

آخر الفصول جاء الخميس الماضي، حين اقتحم الجيش القرية بشكل مفاجئ، فرض حظر تجول شامل ما زال مستمراً، ورافق الاقتحام جرافات عسكرية دمّرت آلاف أشجار الزيتون بعضها عمره مئات السنين، في مشهد وصفه الأهالي بأنه "إبادة زراعية".

أمين أبو عليا، رئيس مجلس قروي المغيّر – الذي اعتقل لاحقاً – قال إن 18 آلية عسكرية اقتحمت الأراضي الزراعية، تحت أنظار قادة المستوطنين ومن بينهم عضو الكنيست آفي سكوت. وأضاف أن الجيش أصدر ثلاثة أوامر بمصادرة نحو 1900 دونم خلال أشهر قليلة، ما يعني أن مساحة القرية المتبقية تتآكل بسرعة بعد أن تقلّصت أصلاً من 43 ألف دونم قبل الاحتلال إلى أقل من ألف دونم اليوم.

 

دماء واعتقالات

ليست الشجرة وحدها في مرمى النيران؛ فخلال الحرب الإسرائيلية على غزة وما رافقها من تصعيد في الضفة، قُتل ستة من أبناء القرية، وأصيب 250 آخرون، فيما يقبع نحو 70 أسيراً من المغيّر في السجون. وقبل أيام فقط استشهد الشاب حمدان موسى أبو عليا (18 عاماً) برصاص الجيش أثناء اقتحام القرية، ثم اعتُقل عدد من أقاربه، بينهم والده وشقيقتاه.

الأهالي يرون أن ما يجري عقاب جماعي بعد مقتل مستوطن إثر انقلاب مركبته قرب القرية، حيث تحوّلت الشائعة إلى مبرر للاقتحامات والانتقام، بدءاً من إغلاق الطرقات وحتى اقتلاع الأشجار.

 

بين غزة والضفة.. خيط واحد

المحللون يربطون بين ما يحدث في المغيّر وبين الحرب في غزة وسياسة التهجير شمال الضفة. صلاح الخواجا، من هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، يرى أن ما يجري ليس مجرد "حملة عسكرية" بل جزء من استراتيجية تهدف إلى كسر إرادة القرى الفلسطينية. ويضيف أن مصادرة الأراضي، اقتلاع الأشجار، والتنكيل بالسكان هي أدوات لإضعاف صمود الناس ودفعهم إلى الرحيل.

الخواجا لفت إلى أن أكثر من 33 تجمعاً فلسطينياً هُجّر منذ أكتوبر 2023، وأن المستوطنين – المسلحين بغطاء رسمي وبنادق أميركية – صاروا أداة مباشرة في هذه الحرب. "ما كان بالأمس هراوات وحجارة، أصبح اليوم أسلحة نارية بأيدي المستوطنين الذين ينفذون اعتداءات تحت حماية الجيش"، يقول الخواجا.

 

قرية محاصرة.. وأمل لا يموت

ورغم ذلك، لم يرحل أهل المغيّر. يصرّون على العودة حتى من خارجها عبر الجبال ليلاً. نحو 80% من سكانها كانوا يعتمدون على الزراعة والثروة الحيوانية، لكن الاحتلال حوّل ذلك إلى أقل من 30% فقط. ومع ذلك، يرفضون مغادرتها ويعتبرون صمودهم شكلاً من أشكال المقاومة.

أبو عليا نفسه، قبل اعتقاله، شدد على أن ما يجري رسالة واضحة لكل قرى الضفة: "ثمن رفض الاحتلال سيكون باهظاً". لكنه أضاف أن القرية، رغم الدماء والمجازر، باقية.

 

 ما وراء الاستهداف

المغيّر ليست مجرد نقطة على خريطة الضفة، بل عقدة استراتيجية في مشروع الاستيطان. السيطرة على أراضيها تعني ربط المستوطنات المحيطة ببعضها وتوسيع الطوق الاستيطاني وصولاً إلى الأغوار. لذلك، ما يحدث ليس إجراءً عسكرياً مؤقتاً، بل جزء من هندسة ميدانية يراد بها تغيير الواقع الجغرافي والديمغرافي.

ومع اتساع عمليات الاستيطان وتحول المستوطنين إلى ميليشيات مسلحة، تبدو المغيّر اليوم نموذجاً مكثفاً لسياسة "الأرض المحروقة": اقتلاع الشجر، محاصرة البشر، وإشعال الخوف كأداة لفرض التهجير. لكن ما لم يضعه الاحتلال في الحسبان أن هذه القرية – مثل كثير من القرى الفلسطينية – تحمل ذاكرة مقاومة عمرها عقود، تجعلها أكثر تمسكاً بالأرض كلما اشتد الحصار.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 3 + 1