منذ عام 2015، أصبحت ألمانيا الوجهة الأبرز للاجئين السوريين الهاربين من الحرب والاضطهاد. فقد فتحت برامج إنسانية بالتعاون مع الأمم المتحدة مسارات قانونية لإعادة التوطين، واعتُبرت ملاذًا آمنًا لآلاف الأسر. غير أن الواقع لم يكن دومًا بمستوى التوقعات، إذ اصطدم كثير من هؤلاء اللاجئين بجدار البيروقراطية الألمانية، ليجدوا أنفسهم عالقين بين إقامة مؤقتة لا تنتهي ومتطلبات إدارية مرهقة قد تهدد استقرارهم بالكامل.
جواز السفر.. وثيقة تتحكم بالمصير
أكثر ما يثقل كاهل السوريين في ألمانيا هو اشتراط جواز السفر السوري كوثيقة أساسية لتجديد الإقامة أو الحصول على الخدمات. ورغم أن أغلبهم وصلوا بطرق قانونية معترف بها، فإن مطالبتهم الدائمة بجواز ساري المفعول تضعهم في مأزق حقيقي.
فالحصول على الجواز السوري ليس عملية يسيرة. السفارات السورية ما تزال تعاني من بطء الإجراءات، وارتفاع الرسوم، وغياب الشفافية، إضافة إلى أن بعض المكاتب الألمانية لا تعترف بجوازات صادرة بالوكالة أو عبر أقارب من الداخل السوري. والأسوأ أن السلطات قد تصادر الجواز أحيانًا أو تعتبره غير صالح من دون تفسير واضح.
بهذا، يصبح اللاجئ أمام معادلة شبه مستحيلة: لا يمكنه الاستمرار في ألمانيا من دون جواز، وفي الوقت نفسه استخراج الجواز مهمة معقدة ومكلفة، وفي حالات كثيرة بلا ضمانات قانونية لاعتراف السلطات به.
بين القوانين والإنسانية الغائبة
تستند ألمانيا في إجراءاتها إلى مواد واضحة في قانون الإقامة، تنص على أن كل أجنبي يجب أن يحمل جواز سفر صالحًا. لكن التشدد في تطبيق هذه المادة يغفل عن ظروف إنسانية حساسة يعيشها لاجئون فرّوا من بلد منهار مؤسساتيًا.
هؤلاء الأشخاص لم يتركوا بلادهم بمحض إرادتهم، بل هربوا من واقع دموي. ومع ذلك، يجدون أنفسهم مجبرين على العودة إلى نفس الدوائر الرسمية للحصول على جواز سفر، في وقت قد لا يكون فيه التعامل مع تلك الجهات خيارًا واقعيًا أو آمنًا. وهنا يظهر التناقض الكبير: حماية دولية من جهة، وضغط إداري يعيد ربطهم بسلطات بلدهم السابق من جهة أخرى.
حياة معلّقة
غياب إقامة مستقرة لا يعني فقط مشاكل في الأوراق الرسمية. بل يترجم مباشرة إلى أزمات حياتية يومية: صعوبة في الحصول على عمل قانوني، قيود على الدراسة الجامعية، اضطراب في المساعدات الاجتماعية، وانعدام الأمان في ما يخص السكن أو الرعاية الصحية.
الكثير من العائلات تعيش على أعصابها، تنتظر تجديد إقامة قد يأتي أو يتأخر أو يُرفض. بعضهم يضطر لمراجعة مكاتب الأجانب كل بضعة أشهر، في عملية مرهقة نفسيًا وجسديًا، تزيد شعورهم بالهشاشة وعدم الاستقرار.
اختلاف بين الولايات
من المشكلات المتكررة أيضًا غياب توحيد في الإجراءات. فما يُقبل في ولاية ألمانية قد يُرفض في أخرى. بعض مكاتب الأجانب تتساهل مع جوازات صادرة عن السفارة أو عبر وكلاء، بينما أخرى لا تعترف بها. هذا التباين يخلق غموضًا قانونيًا ويجعل مصير اللاجئ مرهونًا بالمدينة التي يعيش فيها. وإذا قرر الاعتراض، يجد نفسه في معارك قضائية طويلة ومكلفة، تزيد من تعقيد وضعه.
الفئات الأكثر هشاشة
الفئة الأكثر معاناة في هذه الدوامة هم الحاصلون على “الحماية الثانوية” أو “إقامة منع الترحيل”. هؤلاء لا يملكون الحق بسهولة في الحصول على وثائق سفر بديلة ألمانية، فيُجبرون على محاولة استخراج جواز سوري بأي طريقة. وبما أن العملية قد تكون صعبة أو شبه مستحيلة، يبقون عالقين في حلقة مفرغة من الطلبات والرفض والغرامات.
القانون بين الصرامة والمرونة
القانون الألماني يتيح في حالات استثنائية منح وثائق بديلة، مثل وثيقة سفر للأجانب أو وثيقة سفر للاجئين، لكن هذه الإمكانية مشروطة بإثبات استحالة الحصول على جواز وطني. المشكلة أن هذا الإثبات ليس سهلاً، وغالبًا ما يتطلب أوراقًا وشهادات إضافية لا يمكن تأمينها بسهولة.
هذا التشدد يثير تساؤلات عميقة: هل الأولوية لتطبيق النصوص بحذافيرها، أم لتجسيد قيم الحماية والإنسانية التي تعهّدت بها ألمانيا عند استقبال اللاجئين؟
أبعاد نفسية واجتماعية
لا تقتصر آثار البيروقراطية على الوضع القانوني، بل تمتد إلى الصحة النفسية والجسدية للاجئين. فالتوتر المستمر من فقدان الإقامة أو ضياع المساعدات يولد قلقًا مزمنًا قد يقود إلى أمراض جسدية حقيقية. بعض الأسر تعيش في عزلة بسبب خوفها من أي خطأ إداري قد يهدد وجودها.
اللاجئون الذين جاؤوا بحثًا عن الاستقرار يجدون أنفسهم في واقع مغاير تمامًا، حيث تتحكم وثيقة صغيرة في مستقبلهم كله.
الحاجة إلى حلول متوازنة
ألمانيا قدّمت نموذجًا رائدًا في استقبال اللاجئين مقارنة بدول أخرى، لكن هذا النموذج يواجه خطر التشويه بسبب التعقيدات البيروقراطية. المطلوب ليس التخلي عن القوانين، بل تطوير آليات أكثر مرونة تسمح بمعالجة الحالات الإنسانية الخاصة، وتمنع تحويل آلاف اللاجئين إلى أسرى وثيقة رسمية صعبة المنال.
توحيد التعليمات بين الولايات، وتبسيط إجراءات منح الوثائق البديلة، والاعتراف بواقع الانهيار المؤسساتي في سوريا، كلها خطوات ضرورية لضمان أن يبقى استقبال اللاجئين خطوة إنسانية حقيقية، لا مجرد شعار قانوني فارغ.