أطفال الحرب السورية بين السجون والمياتم: جيل يبحث عن هوية

رزان الحاج

2025.08.23 - 03:48
Facebook Share
طباعة

 منذ اندلاع الحرب السورية، تكشّفت مآسٍ إنسانية متعددة المستويات، لكن ربما يبقى أكثرها إيلاماً هو مصير الأطفال الذين وجدوا أنفسهم في قلب دائرة القمع والحرمان. هؤلاء الصغار لم يكتفوا بخسارة الاستقرار العائلي، بل عاشوا تجارب قاسية داخل السجون أو المياتم، وتعرض بعضهم لطمس متعمد لهويتهم، في مشهد يلخص كيف يمكن للحرب أن تسلب الطفولة بكاملها وتحوّلها إلى صراع يومي من أجل البقاء.


الطفولة بين القضبان
ليس مألوفاً أن يُربط الأطفال بمصطلح "السجون"، لكن في الحالة السورية، وقع ذلك بشكل متكرر. فقد رافق كثير من الأطفال آباءهم أو أمهاتهم إلى المعتقلات، إما لعدم وجود بديل يرعاهم، أو نتيجة لقرارات متعمدة من أجهزة الأمن. في هذه الأجواء المغلقة، عاشوا ظروفاً لا تحتمل: أصوات التعذيب، مشاهد الفقدان، والحرمان من أبسط مقومات الحياة.


تجربة الاعتقال في عمر مبكر تعني أن ذاكرة الطفل تُختزن بأحداث مشوهة عن العالم. فالمكان الذي يفترض أن يكون ملاذاً آمناً – البيت والمدرسة والحي – تحوّل فجأة إلى فضاء قسري لا يرحم. هذا الواقع ترك آثاراً طويلة الأمد على إدراكهم لمعنى الأمان والثقة بالآخرين.


المياتم كمحطة إجبارية
حين لا يُترك الطفل في المعتقل، يُلقى غالباً في دور الأيتام أو مؤسسات الرعاية. للوهلة الأولى قد تبدو هذه البيوت بديلاً إنسانياً، لكنها في الحقيقة لم تكن دائماً كذلك. كثير منها افتقر إلى الرعاية الكافية، وبعضها تحول إلى أماكن للعزل والانضباط أكثر من كونها بيئة نمو صحية.


الانتقال المتكرر بين هذه المؤسسات ضاعف من شعور الأطفال باللااستقرار. بعضهم فُصل عن إخوته أو أقاربه، ليعيش كل فرد في مكان مختلف، وهو ما جعل فكرة "العائلة" نفسها تتفتت تدريجياً. التبني أو الكفالة في بعض الحالات جرى بطرق غامضة، ما زاد من احتمالية ضياع الروابط الحقيقية.


ضياع الهوية
إحدى أخطر النتائج تمثلت في التلاعب المتعمد بهويات هؤلاء الأطفال. فقد جرى تسجيل البعض على أنهم "مجهولو النسب"، بينما غُيّرت أسماء آخرين أو نسبوا إلى عائلات بديلة. هذه الممارسات لم تكن مجرد خطأ إداري، بل فعل ممنهج يؤدي إلى اقتلاع الطفل من جذوره.


الهوية بالنسبة للطفل ليست ورقة رسمية فقط، بل هي أساس الانتماء والذاكرة العائلية. حين يُمحى الاسم أو يُستبدل، يُصبح الطفل غريباً حتى عن نفسه. وعندما يكبر، يواجه أسئلة بلا إجابات: من أنا؟ من أهلي؟ هل ما زالوا أحياء؟ هذه الفجوة الوجودية هي أخطر من أي حرمان مادي.


الآثار النفسية
من الناحية النفسية، تعرض الأطفال لصدمات متراكمة. الخوف المزمن، مشاهد العنف، فقدان الأبوين أو أحدهما، العزلة عن المجتمع… كلها عناصر صنعت اضطرابات متنوعة:
كوابيس متكررة،
انطواء وعزلة،
سلوكيات عدوانية أو نوبات غضب،
تأخر دراسي وصعوبات في التركيز،
فقدان الثقة بالآخرين.


بعض الأطفال لجأوا إلى لعب دور "الوصي" على إخوتهم الأصغر، ما جعلهم يكبرون قبل أوانهم. آخرون لجأوا إلى الصمت الكامل كوسيلة دفاعية. النتيجة أن الطفولة الطبيعية – بضحكاتها وألعابها – أُجهضت لصالح حياة مليئة بالخوف والترقب.


جيل بذاكرة ناقصة
أكبر مأساة تكمن في أن جيلاً كاملاً نشأ بذاكرة مشوهة أو ناقصة. كثير من هؤلاء الأطفال لا يعرفون حقيقة ماضيهم: هل هم فعلاً أيتام؟ هل لذويهم أثر أو مصير معروف؟ بعضهم سمع قصصاً متناقضة، أو لم يُسمح له أصلاً بطرح الأسئلة.


الذاكرة المشوهة لا تعني فقط ضياع الماضي، بل أيضاً ارتباك المستقبل. فالشاب الذي يدخل مرحلة المراهقة وهو غير متأكد من أصله أو نسبه، سيواجه صعوبة في بناء هوية مستقرة. هذا الارتباك قد ينعكس على حياته الاجتماعية، قدرته على تكوين علاقات صحية، أو حتى رؤيته لوطنه.


المجتمع بين الصمت والمسؤولية
المجتمع السوري اليوم يواجه عبئاً ثقيلاً. صور المفقودين تملأ الجدران، والقصص تُروى في الساحات والوقفات الصامتة، لكن ذلك لا يكفي. هناك حاجة لخطوات عملية:
البحث الجدي عن المفقودين عبر آليات مستقلة،
إنشاء قاعدة بيانات وطنية للأطفال مجهولي النسب أو المفقودين،
تسهيل لمّ الشمل للأسر التي ما زالت تبحث عن أبنائها،
توفير دعم نفسي واجتماعي طويل الأمد.

فبدون هذه الإجراءات، ستبقى القضية مجرد جرح مفتوح في جسد المجتمع.


البعد القانوني والعدالة
إخفاء الأطفال أو تغيير هوياتهم أو حرمانهم من عائلاتهم ليس مجرد انتهاك عابر، بل جريمة مضاعفة. القانون الدولي يعتبر نقل الأطفال أو فصلهم قسراً عن ذويهم جريمة ضد الإنسانية.


أي عدالة انتقالية مستقبلية في سوريا لن تكون كاملة من دون إدراج ملف الأطفال كأولوية قصوى. كشف الحقيقة وإعادة الاعتبار لهؤلاء الضحايا ليس خياراً أخلاقياً فحسب، بل شرط أساسي لأي مصالحة أو إعادة بناء اجتماعي. فالأجيال الجديدة لا يمكن أن تُبنى على الكذب أو الإنكار.


دروس من تجارب عالمية
ليست هذه المأساة الأولى من نوعها. في أميركا اللاتينية، مثلاً، عانى أطفال "المختفين قسرياً" من ضياع مشابه، لكن جهود المجتمع المدني هناك أسفرت عن إنشاء "بنوك جينية" لمطابقة الأطفال بعائلاتهم الأصلية. وفي البلقان، جرى اعتماد برامج نفسية وتعليمية طويلة الأمد لإعادة دمج الصغار في المجتمع بعد الحروب.


هذه التجارب تذكّر بأن التعافي ممكن، لكنه يتطلب إرادة سياسية ومجتمعية، وخططاً بعيدة المدى تراعي الخصوصية الثقافية والإنسانية للسوريين.


نحو مستقبل مختلف
رغم قتامة الصورة، لا يزال الأمل موجوداً. الأطفال يملكون قدرة فطرية على التكيف والتعافي إذا توفر لهم الاحتضان الصحيح. ما يحتاجونه اليوم:
بيئات تعليمية تراعي الصدمات،
برامج دعم نفسي متخصص،
سياسات واضحة تعيد الاعتبار لهويتهم،
مشاركة المجتمع المحلي في رعايتهم.


إن بناء سوريا جديدة لن يكتمل من دون احتضان هؤلاء الأطفال، لأنهم يمثلون المستقبل نفسه. إعادتهم إلى الضوء ليست فقط مسؤولية إنسانية، بل ركيزة لإعادة بناء وطن ممزق.

 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 10 + 2