على نحوٍ مفاجئ، بدأت تتكشف ملامح تعاون أمني بين الولايات المتحدة والحكومة السورية الجديدة، يتركز على ملف "مكافحة الإرهاب" وملاحقة فلول تنظيم "الدولة الإسلامية" في الداخل السوري. عمليات المداهمة المشتركة التي أُعلن عنها مؤخرًا، أوحت بوجود تفاهمات أعمق مما يُصرّح به رسميًا، وفتحت بابًا واسعًا للتساؤلات حول مستقبل هذا التعاون وحدوده.
العملية الأبرز وقعت فجر الأربعاء 20 آب، حين داهمت قوات أمريكية بالتنسيق مع قوات حكومية أحد المواقع في بلدة أطمة شمالي سوريا، لتعلن القيادة المركزية الأمريكية بعدها بساعات أن المداهمة أسفرت عن مقتل قيادي بارز في تنظيم "الدولة"، وُصف بأنه مسؤول مالي رئيسي وكان يخطط لهجمات داخل سوريا والعراق. استمرت العملية نحو ساعتين، وأسفرت عن إنهاء نشاط شخصية وُصفت بأنها "تهديد مباشر" لكل من القوات الأمريكية وشركائها المحليين.
هذه العملية لم تكن الأولى، بل جاءت امتدادًا لعمليات مشتركة سابقة، كان من أبرزها تلك التي استهدفت قيادات في ريف حلب الشرقي قبل أسابيع. البيانات الأمريكية شددت على أن هذه العمليات ستستمر "أينما وُجدت التهديدات"، بينما لم تُخفِ الحكومة السورية ارتياحها للتنسيق، مؤكدة أن "مكافحة الإرهاب" هي ملف لا يحتمل المساومات.
محللون سياسيون رأوا أن هذه التطورات ليست معزولة، بل مرتبطة بسياق أوسع من التفاهمات الأمنية التي بدأت تتبلور بعد سقوط النظام السابق، وخصوصًا مع تراجع النفوذ الإيراني في سوريا. ويشير هؤلاء إلى أن واشنطن، رغم قوتها العسكرية والاستخباراتية، لا يمكنها إدارة هذا الملف بمفردها، وأنها بحاجة إلى شريك محلي يمتلك الأرض والقدرة على تعقب الخلايا النائمة.
وبحسب تقديرات عدة، فإن واشنطن تسعى إلى ضمان "سوريا خالية من الإرهاب"، ليس فقط لحماية مصالحها المباشرة وقواتها المنتشرة في المنطقة، بل أيضًا لقطع الطريق أمام أي فراغ أمني قد يُعيد تنظيم "الدولة الإسلامية" أو جماعات مشابهة إلى الواجهة.
في السياق ذاته، عُقد لقاء دبلوماسي لافت في باريس، جمع وزير الخارجية السوري مع نظيره الفرنسي والمبعوث الأمريكي إلى سوريا. البيانات الرسمية تحدثت عن "لقاء صريح وبنّاء"، ركّز على تعزيز التعاون في مكافحة الإرهاب ودعم قدرات الدولة السورية ومؤسساتها. ورغم أن الدور الفرنسي بدا محدودًا مقارنة بالدور الأمريكي، فإن مراقبين اعتبروا أن مجرد حضور باريس يعكس رغبة أوروبية في المشاركة – ولو سياسيًا أو ماليًا – في إعادة تثبيت الاستقرار الأمني.
التطور اللافت أن العمليات الأخيرة لم تقتصر على ملاحقة قيادات الصف الأول في تنظيم "الدولة"، بل طالت أيضًا عناصر أقل شهرة لكنهم نشطون ميدانيًا، وهو ما اعتُبر مؤشرًا على اتساع دائرة التنسيق الاستخباراتي بين واشنطن ودمشق. مصادر متقاطعة رجّحت أن المعلومات الاستخباراتية تُجمع عبر قنوات مشتركة، تشمل مراقبة الاتصالات والتحركات على الأرض، وصولًا إلى التخطيط الميداني للعمليات.
ويرى محللون أن هذه التفاهمات الأمنية قد تفتح الباب أمام تعاون أوسع في ملفات أخرى، مثل إعادة تفعيل اتفاقيات وقف إطلاق النار القديمة في الجنوب، أو حتى نقاشات تتعلق بالحدود ودور قوات الأمم المتحدة. ومع ذلك، لا يزال الطابع الأمني الصرف هو السائد حتى الآن، دون أي حديث عن تفاهمات سياسية أو دبلوماسية شاملة.
في المحصلة، تبدو واشنطن ودمشق أمام مرحلة جديدة من التنسيق الذي لم يعد ممكنًا إنكاره. ما بدأ بعمليات سرية ضد قيادات متشددة صار اليوم يُعلن بشكل رسمي عبر بيانات عسكرية ودبلوماسية. وبينما تصفه بعض الأطراف بأنه "شراكة اضطرارية" فرضتها الحاجة لمحاربة عدو مشترك، يراه آخرون بداية مسار جديد قد يعيد رسم التحالفات في المنطقة.
ومهما كانت التوصيفات، فإن ما يجري على الأرض يشي بأن الحرب ضد الإرهاب في سوريا لم تعد شأنًا داخليًا أو معركة تخوضها قوة منفردة، بل تحولت إلى ملف تقاطع مصالح بين واشنطن ودمشق، وربما أطراف أخرى ستدخل على الخط قريبًا.