أداة حرب لا أداة إنقاذ: لماذا فشلت مؤسسة غزة الإنسانية؟

من كابول إلى بغداد وصولاً إلى غزة: تاريخ أسود لتسييس المساعدات

2025.08.23 - 09:22
Facebook Share
طباعة

في غضون أشهر قليلة، صعد اسم “مؤسسة غزة الإنسانية” كفاعل طارئ يتولى توزيع الغذاء في واحدة من أعقد البيئات الإنسانية على الكوكب. لكن وراء الاندفاعة اللوجستية ظهرت شبكة إدارة غير معتادة: عسكريون متقاعدون، ضباط مخابرات سابقون، وشخصيات إنجيلية، في نموذج يجاور “العسكرة الخفيفة” للعمل الإغاثي ويضع الحياد في مرمى الشك. هذا ما وثّقته تقارير معمقة، ثم تصاعد ببلاغات قانونية وضغط حقوقي متزايد.

عسكريون في ثوب إنساني

منذ الإعلان عنها، ظهرت المؤسسة وكأنها رد عاجل على المشهد الإنساني المنهار في غزة، لكن طبيعة القائمين عليها فتحت الباب أمام الريبة. لم تقتصر إدارتها على قساوسة إنجيليين أو ناشطين مدنيين كما جرى الترويج، بل ضمّت عسكريين متقاعدين وضباط مخابرات سابقين، بعضهم معروف بخبراته في الشرق الأوسط. هذه الخلفية الأمنية–العسكرية زرعت بذور الشك حول ما إذا كانت المؤسسة تُدار بمنطق "الأمن والسياسة" أكثر مما تُدار بمنطق "الإغاثة والحياد".

فالعمل الإنساني، في المفهوم الدولي، يفترض أن يكون منفصلاً تماماً عن الحسابات العسكرية. لكن في حالة غزة، تداخلت الأدوار بشكل جعل المؤسسة أقرب إلى ذراع ميداني يحمل غطاءً إنسانياً أكثر من كونها منظمة إغاثة مستقلة.

دماء على أبواب الخبز

الوقائع على الأرض جاءت لتؤكد المخاوف. فمنذ بداية نشاط المؤسسة، تحولت نقاط توزيع المساعدات إلى بؤر للموت. تقارير الأمم المتحدة أشارت إلى أن ما يقارب 800 فلسطيني قُتلوا خلال أسابيع قليلة أثناء محاولات الحصول على الغذاء، سواء بسبب التدافع أو إطلاق النار الذي صاحب الازدحام عند هذه المراكز. آلاف آخرون أصيبوا بجروح متفاوتة، في مشاهد وُصفت من منظمات إنسانية بأنها "مصائد موت" أكثر من كونها مراكز إغاثة.
الأدهى أن هذه الوقائع لم تُسجل كحوادث فردية، بل تكررت بشكل متسلسل، مما دفع منظمات طبية دولية إلى القول إن الأمر يمثل "مجازر متكررة" تعكس عجزاً جسيماً في إدارة المساعدات، وربما ما هو أخطر من العجز: وجود نية لتوجيهها بما يخدم أجندات تتجاوز البعد الإنساني.

مع تفاقم الأوضاع، انفجرت موجة انتقادات دولية ضد المؤسسة، الأمم المتحدة وصفت نموذجها بأنه أقرب إلى "عرض ساخر" يغطي على العنف القائم، معتبرة أن فشلها لم يعد ممكناً تبريره.

مركز الحقوق الدستورية في نيويورك لوّح بخطوات قضائية، مؤكداً أن ما جرى يرقى إلى "تواطؤ في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية".
وفي أوروبا، اعتبرت فرنسا أن المؤسسة تمثل "فضيحة مخزية"، فيما أعلنت سويسرا نيتها إغلاق فرعها في جنيف بسبب غياب أي نشاط فعلي سوى الاسم.
أما على مستوى المجتمع المدني العالمي، وقّعت أكثر من 170 منظمة إنسانية بياناً مشتركاً يطالب بوقف نشاط المؤسسة بشكل كامل.

حتى داخل الولايات المتحدة، ارتفعت الأصوات المطالبة بالتحقيق، حيث دعا 21 عضواً في مجلس الشيوخ إلى وقف تمويلها فوراً وإعادة تقييم دورها.

تسييس العمل الإنساني

ومنذ انكشاف خيوط الأزمة التي تحيط بمؤسسة "غزة الإنسانية"، تبيّن أن القضية لا تتعلق فقط بإخفاق إداري أو سوء تنظيم بيروقراطي، بل ترتبط بتحولات أعمق تضرب جوهر العمل الإنساني في واحدة من أكثر المناطق هشاشة في العالم.

إقحام عسكريين متقاعدين وضباط مخابرات سابقين في إدارة ملف بالغ الحساسية مثل توزيع المساعدات في غزة جعل المؤسسة تفقد أبسط قواعد الحياد. فالعمل الإنساني بطبيعته يقوم على الثقة والشفافية، وأي شبهة ارتباط بمؤسسات أمنية أو عسكرية تقوّض مشروعيته، وتحوّله من قناة إنقاذ إلى أداة صراع. هذا الخلل لم يضرب فقط صورة المؤسسة أمام الرأي العام المحلي، بل أضعف أيضاً شرعية وجودها أمام شركائها الدوليين.

بدلاً من أن تكون "غزة الإنسانية" جسراً للتعاون مع المؤسسات الأممية، تحوّلت سريعاً إلى عبء قانوني وأخلاقي على المانحين. الجهات الدولية الممولة للمساعدات تعمل وفق منظومة صارمة من الشفافية والرقابة، وحين تظهر شبهات بتسييس أو انحراف في مسار المساعدات، فإن أي شراكة تصبح موضع شك. وهذا ما يفسر تراجع بعض المنظمات الأممية عن التعاون المباشر، وطرح تساؤلات أوروبية وأمريكية حول جدوى استمرار تمويل مشاريع مرتبطة بالمؤسسة.

الانعكاسات لم تظل حبيسة أروقة السياسة أو التحقيقات، بل وصلت إلى صلب حياة المدنيين في غزة. ففي منطقة تعاني أصلاً من الجوع والحصار وانعدام الموارد، أي خطأ إداري أو غموض في مسار المساعدات يترجم مباشرة إلى نقص في الغذاء والدواء والمأوى. المدنيون هنا لا يملكون رفاهية انتظار تسويات سياسية أو إصلاحات هيكلية، بل يدفعون الثمن بدمائهم وأجسادهم، وهو ما يجعل أي خلل في منظومة الإغاثة جريمة مضاعفة.

الأزمة أظهرت أيضاً الوجه الآخر لتسييس الإغاثة: الدعاية. فبدلاً من أن تكون المساعدات وسيلة لحماية الناس، تحوّلت في بعض الأحيان إلى أداة ضغط ومساومة. المدنيون تعرضوا للضرر مرتين؛ الأولى حين حُرموا من وصول المساعدات بشكل آمن وشفاف، والثانية حين جرى استغلال حاجتهم كجزء من لعبة النفوذ والصراع على الصورة والشرعية أمام المجتمع الدولي. هذا الاستخدام المزدوج كشف كيف يمكن أن تتحول الإنسانية نفسها إلى ورقة تفاوضية في نزاع مفتوح.

تسييس العمل الإنساني ليس جديداً في تاريخ الصراعات الحديثة. ففي أفغانستان بداية الألفية (2001–2005)، أنشأت الولايات المتحدة وبريطانيا منظمات إغاثية مرتبطة ببرامج "إعادة الإعمار" لكن كثيراً منها خضع لإدارة أو مراقبة عسكرية مباشرة، ما أدى إلى التشكيك في حيادها وأغلق بعضها بعد فضائح فساد وتمويل مشبوه.

وفي العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003، لعبت منظمات إنسانية واجهة أدواراً مرتبطة بالاستخبارات والتحالف العسكري، حتى أن الصليب الأحمر الدولي وقتها حذّر من "تذويب الحدود بين الإغاثة والعمل العسكري"، وهو ما أدى لاحقاً إلى استهداف مكاتب بعض هذه المنظمات وفقدانها القدرة على العمل.

أما في سوريا بعد 2011، فقد وُجهت اتهامات لعدد من الجمعيات العاملة في مناطق النزاع بأنها أصبحت جزءاً من لعبة التمويل السياسي، حيث ربطت بعض الدول المانحة مساعداتها بمواقف سياسية أو عسكرية، ما أدى إلى إضعاف ثقة السكان المحليين بالمؤسسات الدولية.

اليوم، في غزة (2023–2025)، تتكرر المعضلة نفسها. فـ"مؤسسة غزة الإنسانية"، التي كان يفترض أن تكون جسراً لإيصال المساعدات، أصبحت محاطة بشبهات بسبب إشراك ضباط استخبارات وعسكريين متقاعدين في إدارتها. ومع تفاقم الحرب والحصار، فإن فقدان الحياد في مثل هذه المؤسسات لا ينعكس فقط على صورتها الدولية، بل يؤدي مباشرة إلى حرمان مئات آلاف المدنيين من الغذاء والدواء.

تُظهر هذه المحطات المتتالية أن الإغاثة حين تتحول إلى أداة سياسية، تفقد معناها، ويصبح المدنيون هم من يدفعون الثمن الأكبر عبر عقود مختلفة، من كابول إلى بغداد إلى حلب، وصولاً إلى غزة.

خلاصة المشهد أن "مؤسسة غزة الإنسانية" لم تعد تُقاس بما تقدمه من مساعدات، بل بما تسببه من دماء وفوضى حول مراكز توزيعها. الاسم بدا واعداً، لكن الممارسة فجّرت سلسلة من الفضائح والانتقادات القانونية والسياسية. السؤال المطروح اليوم: هل تبقى هذه المؤسسة قائمة رغم الانهيار الأخلاقي الذي يلاحقها، أم أنها ستنتهي كنموذج جديد على أن المساعدات حين تُدار بالعقلية الأمنية تصبح جزءاً من أدوات الحرب لا من أدوات الإنقاذ؟ 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 10 + 7