تشاجوس الجديدة.. غزة بين اختبار الصمود ومصير المنفى

أماني إبراهيم- وكالة أنباء آسيا

2025.08.23 - 08:40
Facebook Share
طباعة

 

منفى بلا عودة: حين يُمحى شعب لصالح خرائط القوة الكبرى

حين يظن البعض أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب حالة استثنائية في خطابه عن "ترحيل الفلسطينيين"، تكشف الوقائع أن الأمر أبعد من نزوة فردية. التاريخ الأميركي نفسه مثقل بسيناريوهات تهجير قسري لشعوب بأكملها. أحد أبشع هذه الفصول وقع عام 1965، في أرخبيل تشاجوس بالمحيط الهندي، حيث أُزيل السكان الأصليون من أرضهم، ليُفسح المجال أمام قاعدة عسكرية أميركية ستصبح لاحقاً من أهم قواعد واشنطن خارج أراضيها.

 

الجغرافيا الاستراتيجية والصفقة الخفية

يقع أرخبيل تشاجوس في قلب المحيط الهندي، على مفترق طرق حيوي يربط بين الممرات البحرية القادمة من قناة السويس والخليج العربي وصولاً إلى جنوب شرق آسيا. هذه الجغرافيا جعلت الجزر موقعاً استثنائياً لأي قوة عظمى تسعى للهيمنة على طرق التجارة العالمية أو لمراقبة الصراعات في الشرق الأوسط وجنوب آسيا.

 

في ستينيات القرن الماضي، كانت الجزر إدارياً جزءاً من موريشيوس التي كانت لا تزال مستعمرة بريطانية في طريقها نحو الاستقلال. لكن بريطانيا لم تكن مستعدة للتخلي عن ورقة استراتيجية بهذا الوزن. فقبيل الاستقلال، جرى إبرام اتفاق سري بين لندن وواشنطن: تمنح بريطانيا لموريشيوس استقلالاً شكلياً، مقابل فصل تشاجوس عن أراضيها وضمها إلى كيان جديد حمل لاحقاً اسم "الإقليم البريطاني في المحيط الهندي". في المقابل، حصلت لندن على مقابل عسكري–تقني ثمين من الولايات المتحدة، تمثل في الحصول على غواصات "بولاريس" المزودة بصواريخ نووية، ما عزز ترسانة الردع البريطانية في مواجهة الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة.

 

هذه الصفقة لم تكن مجرد اتفاق عسكري، بل مثّلت إعادة رسم للخرائط بدمٍ بارد: سكان تشاجوس وجدوا أنفسهم فجأة خارج معادلة السيادة، وكأن وجودهم غير مرئي في حسابات القوى الكبرى. فالقرار لم يكن يعني فقط تحويل الجزر إلى قاعدة عسكرية، بل أيضاً تحويل حياة آلاف البشر إلى سلسلة من المآسي المتواصلة.

 

التهجير القسري: من الحصار إلى المنافي

بين عامي 1967 و1973، بدأت بريطانيا والولايات المتحدة تنفيذ الخطة السرية لإخلاء أرخبيل تشاجوس من سكانه الأصليين. لم يكن الأمر عملية نقل بسيطة، بل سياسة مدروسة على مراحل. جرى أولاً خنق الحياة اليومية للسكان عبر حرمانهم تدريجياً من أساسيات العيش: أُوقفت إمدادات الغذاء التي كانت تصل بانتظام، وتراجعت خدمات الرعاية الصحية، وأُغلقت المدارس. الهدف كان واضحاً: دفع الناس إلى اليأس والرحيل "طوعاً"، حتى يُقدَّم الإخلاء لاحقاً على أنه نتيجة طبيعية لا إكراه فيها.

 

ولتقويض أي مطالبة بالحقوق، وصفت السلطات البريطانية السكان بأنهم مجرد "عمال مؤقتين" جُلبوا للعمل في مزارع جوز الهند، متجاهلة أن جذورهم تمتد لقرون وأنهم طوّروا مجتمعاً متماسكاً بعاداته ولغته وموروثاته. هذا الوصف الإداري لم يكن بريئاً، بل جزءاً من خطة لنزع الشرعية عن وجودهم التاريخي، وتحويلهم إلى غرباء في أرضهم.

 

وفي غضون ست سنوات فقط، أُجبر ما بين 1,500 و2,000 شخص على ركوب السفن قسراً والرحيل إلى موريشيوس وسيشل. لكن الرحلة لم تكن انتقالاً إلى حياة أفضل، بل إلى جحيم من الإهمال والفقر. استُقبلوا بلا مساكن تليق بالبشر، بلا فرص عمل، وبلا أي وضع قانوني يحميهم. كثيرون افترشوا الشوارع أو عاشوا في أحياء مهمشة، وتحوّلوا إلى لاجئين بلا وطن، محرومين من أبسط حقوق المواطنة.

 

النتيجة كانت انهياراً مجتمعياً شاملاً: تفككت الأسر، وضاعت الروابط الاجتماعية التي حافظت على تماسكهم لقرون. أصيب كثيرون بصدمة نفسية عميقة، وانتهى بعضهم إلى الموت المبكر تحت وطأة الفقر والحرمان. فيما ظل آخرون عالقين في دوامة المنفى الدائم، يعيشون في هامش الدول التي نُقلوا إليها، بلا هوية معترف بها ولا أمل في العودة.

 

قاعدة دييغو غارسيا: الهدف الحقيقي

على أنقاض التهجير الجماعي، شيدت الولايات المتحدة أكبر قاعدة عسكرية لها خارج أراضيها في جزيرة دييغو غارسيا، القلب النابض لأرخبيل تشاجوس. ما بدأ كمخطط سري في الستينيات تحوّل في غضون سنوات إلى حجر زاوية في الاستراتيجية العسكرية الأميركية. القاعدة، المجهزة بمدارج طيران هائلة ومرافئ بحرية عميقة، أصبحت محطة انطلاق لطائرات القاذفات بعيدة المدى ولحاملات الطائرات والغواصات النووية.

 

من هذه الجزيرة المعزولة، تحولت واشنطن إلى لاعب مباشر في مسرح الأحداث العالمية: انطلقت منها طلعات عسكرية حاسمة خلال حرب الخليج الأولى عام 1991، ثم في غزو أفغانستان عام 2001، ولاحقاً في حرب العراق عام 2003. وبهذا، صارت دييغو غارسيا بمثابة "حاملة طائرات ثابتة" في قلب المحيط الهندي، تؤمّن للولايات المتحدة القدرة على مراقبة طرق التجارة البحرية، واحتواء النفوذ الصيني والروسي، وحماية خطوط إمداد الطاقة القادمة من الخليج نحو آسيا.

 

لكن خلف هذا الوهج العسكري تكمن مأساة بشرية مطموسة. فلكي تقوم هذه القاعدة، جرى التضحية بشعب كامل، ومسح هويته من الخارطة السياسية والجغرافية. لم يُترك للسكان الأصليين أي خيار سوى المنفى، بينما أُعيد رسم الجغرافيا على مقاس التحالف الأميركي–البريطاني. هكذا أصبح وجود دييغو غارسيا رمزاً صارخاً لمعادلة قاسية: موقع جيوسياسي استراتيجي مقابل محو مجتمع كامل من التاريخ.

 

العدالة المؤجلة: معارك قانونية بلا نهاية

منذ لحظة التهجير القسري وحتى يومنا هذا، لم يهدأ نضال سكان تشاجوس لاستعادة حقهم في العودة إلى جزرهم. تحوّلت قضيتهم إلى واحدة من أطول وأعقد النزاعات القانونية والسياسية في التاريخ الاستعماري الحديث. فمنذ السبعينيات، تقدّم المهجّرون بعشرات الدعاوى أمام المحاكم البريطانية والأوروبية، مطالبين بإنصافهم واعتراف بحقوقهم التاريخية.

 

عام 2000، شكل حكم محكمة بريطانية بارقة أمل عندما قضى بعدم قانونية عملية التهجير، واعتبرها انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان. غير أن الحكومة البريطانية سارعت إلى تعطيل الحكم، متمسكة بمبررات "الأمن القومي" والتزاماتها تجاه الولايات المتحدة، لتثبت أن الحسابات الجيوسياسية لا تزال أرجح من أي التزام قانوني أو أخلاقي.

 

وفي 2019، جاء رأي محكمة العدل الدولية الاستشاري ليشكل نقطة تحول مفصلية: أكدت المحكمة أن فصل أرخبيل تشاجوس عن موريشيوس قبيل استقلالها كان انتهاكاً للقانون الدولي، ودعت بريطانيا إلى إنهاء سيطرتها "في أسرع وقت ممكن". رغم ذلك، لم يتجاوز الأمر الطابع الرمزي، إذ لم يُترجم إلى خطوات عملية لإعادة الأرض أو السكان.

 

وفي خطوة وُصفت بأنها "متأخرة وناقصة"، أعلنت لندن عام 2024 نيتها نقل السيادة على الأرخبيل إلى موريشيوس. لكن هذا الإعلان جاء محاطاً بالقيود: استمرار وجود القاعدة الأميركية لعقود مقبلة، وعدم إشراك سكان تشاجوس الأصليين في أي مشاورات أو مفاوضات، ما يعني أن مصيرهم ظل رهينة اتفاقات دولية لا تعترف بوجودهم كأصحاب الأرض.

 

باختصار، لا تزال القضية معلقة في منطقة رمادية بين القانون والسياسة. وبينما يتبادل الكبار السيادة والصفقات، يبقى شعب تشاجوس مبعثراً في المنافي، محرومًا من الوطن، ومجردًا من الحق في تقرير مصيره.

 

تشاجوس وصورة الاستعمار الجديد

قضية أرخبيل تشاجوس لم تعد مجرد نزاع حدودي بين بريطانيا وموريشيوس، بل أصبحت مرآة تعكس جوهر ما يُعرف بالاستعمار الجديد. فالمشهد اليوم يكشف عن استعمار لا يقوم على الاحتلال المباشر فحسب، بل على ترتيبات سياسية وعسكرية واقتصادية تُبرم بين القوى الكبرى، بينما يُمحى صوت السكان الأصليين تماماً.


الولايات المتحدة التي نصبت قاعدتها الضخمة على أنقاض تهجير السكان، وبريطانيا التي تلاعبت بالخرائط لتثبيت نفوذها في المحيط الهندي، كلاهما جسّد نموذج السيطرة عبر التحالفات والاتفاقيات، لا عبر المدافع والسفن وحدها.

اللافت أن الخطاب الدولي الذي يرفع شعار "حقوق الإنسان" و"حق تقرير المصير" لم يجد طريقه إلى التطبيق في تشاجوس، حيث أُقصي السكان من أي مشاورات بشأن مستقبل أرضهم، وكأنهم مجرد تفاصيل ثانوية في معادلة جيوسياسية كبرى.

 

بهذا المعنى، فإن تشاجوس تمثل حالة اختبار فاضحة للنظام الدولي: هل يمكن أن يُعاد الاعتبار لشعب اقتُلع من جذوره باسم الأمن العالمي؟ أم أن مصالح القوى الكبرى ستبقى أسمى من كل القوانين والقرارات الدولية؟

التواطؤ الدولي وصمت المؤسسات الأممية

لم يكن تهجير سكان تشاجوس مجرد قرار بريطاني–أميركي منفرد، بل جرى تمريره بغطاء من التواطؤ الدولي وصمت المؤسسات الأممية. فحين أقدمت لندن على اقتطاع الأرخبيل من موريشيوس قُبيل استقلالها عام 1968، كانت الأمم المتحدة قد رفعت شعارات "تصفية الاستعمار" و"حق تقرير المصير"، لكنها اكتفت بقرارات رمزية بلا آلية تنفيذية. لم تُفعَّل لجان التحقيق، ولم تُفرض عقوبات، بل جرى التعامل مع القضية وكأنها تفصيل ثانوي في سياق إعادة رسم الخريطة الاستعمارية.

 

الأخطر أن مجلس الأمن الدولي نفسه كان مشلولاً بفعل معادلة الفيتو الأميركي–البريطاني، ما منح لندن وواشنطن حصانة كاملة. هذا الشلل المؤسسي لم يقتصر على الماضي؛ بل صار قاعدة راسخة تُطبق على كل الملفات التي تمس المصالح الغربية. وهكذا، شرعن الصمت الأممي عملياً جريمة التهجير، وحوّل القانون الدولي إلى نص بلا روح، تُحدِّد فعاليته موازين القوى لا مبادئ العدالة.

 

الصورة تتكرر اليوم بوضوح في غزة: بيانات إدانة تتدفق من الأمم المتحدة، لجان تقصي حقائق تصدر تقارير مفصلة، محاكم دولية تصدر أوامر واضحة، لكن لا أحد يملك أدوات تنفيذ، ولا أحد يجرؤ على مواجهة الغطاء الأميركي–الأوروبي الصلب لإسرائيل. الرسالة واحدة منذ تشاجوس وحتى غزة: في النظام الدولي، القانون موجود على الورق، أما الواقع فتصوغه القوة وتحالفاتها.

 

تشاجوس وغزة: منفى الأرض ومنفى الحقوق

تجربة سكان تشاجوس الذين اقتُلعوا من أرضهم تحت ذريعة "ضرورات الأمن القومي" تُلقي بظلالها الثقيلة على واقع غزة اليوم. في تشاجوس، جرى تهجير نحو ألفي إنسان من جزرهم النائية، ثم أُغلق الباب أمام عودتهم لعقود، بينما تحولت أرضهم إلى قاعدة عسكرية تخدم مصالح القوى الكبرى. وفي غزة، يعيش أكثر من مليوني إنسان تحت الحصار منذ ما يقارب العقدين، وتعرض مئات الآلاف منهم للنزوح القسري بفعل الحرب المستمرة منذ أكتوبر 2023، وسط مخططات إسرائيلية مكشوفة لدفعهم إلى الهجرة الجماعية.

 

المشترك بين التجربتين ليس فقط اقتلاع السكان من الجغرافيا، بل أيضاً حرمانهم من حقوقهم الأساسية وتحويلهم إلى "منفيين أبديين". فالتشاجوسيون وُصفوا بأنهم "عمال مؤقتون" بلا جذور، والفلسطينيون يُواجهون رواية تعتبرهم "سكاناً زائدين" بلا حق تاريخي. كلا الشعبين يواجه استراتيجية واحدة: محو الهوية وتفريغ الأرض لإعادة توظيفها

غزة وتشاجوس: تشابه الأقدار واختلاف المصائر

التجربة المريرة لتشاجوس تعود لتفرض نفسها اليوم عند النظر إلى التهديدات المتكررة بترحيل سكان قطاع غزة. في ستينيات القرن الماضي، كان الهدف البريطاني–الأميركي واضحاً: إفراغ الأرخبيل من أهله لإقامة قاعدة عسكرية تتحكم في قلب المحيط الهندي. لم يكن الأمر مجرد "إعادة تنظيم إداري" كما صُوِّر حينها، بل عملية اقتلاع كاملة لشعب من جذوره كي تتحول أرضه إلى أداة صراع جيوسياسي.

 

اليوم، في غزة، يطفو على السطح خطاب مشابه: إفراغ القطاع من سكانه لصالح ترتيبات أمنية وإقليمية جديدة، حيث تُطرح سيناريوهات نقل السكان إلى سيناء أو إعادة توزيعهم في دول الجوار. وكما جرى تصوير التشاجوسيين كـ"عمال مؤقتين"، يُصوَّر الفلسطينيون في غزة باعتبارهم "عبئاً ديموغرافياً" يعيق مشاريع القوة الكبرى ويعطّل خطط "إعادة تشكيل المنطقة".

غير أن الفارق الجوهري بين التجربتين يكمن في طبيعة الرد: سكان تشاجوس وجدوا أنفسهم في عزلة قاتلة، بلا سند سياسي أو قوة عسكرية، فسقطوا ضحايا للتهجير المنظم. أما في غزة، فالمعادلة مختلفة؛ هناك مقاومة مسلحة تصر على البقاء، وحاضنة شعبية ترفض مغادرة الأرض رغم المجازر والحصار. هذه المقاومة، بما تمثله من فعل صمود يومي، هي ما يمنع تكرار سيناريو تشاجوس حرفياً، ويحوّل التهديد بالترحيل إلى معركة وجودية تتجاوز غزة لتطال مستقبل القضية الفلسطينية برمّتها.

 

المشروع الاستيطاني قاسم مشترك

إذا كانت جزر تشاجوس قد تحولت إلى قاعدة عسكرية أميركية تمارس من خلالها واشنطن نفوذها على المحيط الهندي، فإن فلسطين تواجه مشروعاً استيطانياً ذا طبيعة مختلفة، لكنه يقوم على الأساس ذاته: إفراغ الأرض من سكانها الأصليين وإحلال قوة أخرى مكانهم. في تشاجوس، جرى محو هوية السكان لصالح قاعدة حربية مغلقة؛ وفي فلسطين، يسعى الاحتلال إلى فرض هوية بديلة عبر بناء المستوطنات وتوسيعها، وتحويل الجغرافيا الفلسطينية إلى فسيفساء من الكتل الاستيطانية المتصلة، بينما يُحاصر الفلسطينيون في جيوب معزولة.

 

كلا المشروعين ينبع من منطق واحد: الأرض ليست ملكاً لشعبها بل ورقة في لعبة القوى الكبرى. وبينما وُضعت تشاجوس في خدمة الإستراتيجية العسكرية الأميركية–البريطانية، تُدار فلسطين كملف ضمن الإستراتيجية الإسرائيلية المدعومة غربياً. النتيجة متشابهة: اقتلاع السكان، تقويض حق العودة، وتجريد الشعوب من سيادتها على أرضها.

 

الخطاب الإعلامي وصناعة التهميش

كما لعب الإعلام الغربي دوراً حاسماً في تهميش قضية تشاجوس لعقود طويلة، يتكرر المشهد مع فلسطين وإنْ بأدوات أكثر تطوراً. ففي حالة تشاجوس، جرى تقديم السكان في الخطاب الرسمي والإعلامي كـ"مهاجرين مؤقتين" أو "جماعة صغيرة بلا تاريخ"، وهو توصيف يهدف إلى نزع الشرعية عن وجودهم وتحويل معاناتهم إلى قضية ثانوية أمام "ضرورات الأمن والدفاع". هذه السردية منحت غطاءً للرواية البريطانية–الأميركية التي بررت التهجير بصفته "إجراءً استراتيجياً".

 

اليوم، يُرسم المشهد الفلسطيني بآليات مشابهة: الإعلام الغربي السائد يختزل الفلسطينيين في صورة "خطر أمني" أو "طرف مسلح" يهدد إسرائيل، متجاهلاً جذور القضية المرتبطة بالاقتلاع والاحتلال. وحين تُذكر غزة، غالباً ما تُعرض في عناوين الأخبار كـ"بؤرة صراع" أو "معقل للتنظيمات المسلحة"، بينما يتم تغييب حقيقة وجود شعب يعيش حصاراً مستمراً منذ أكثر من 18 عاماً. النتيجة أن الخطاب الإعلامي لا يكتفي بتبرير سياسات القوة الكبرى، بل يشارك في إعادة إنتاجها عبر التحكم في الوعي العام وصناعة صورة منحازة للضحايا.

 

القانون الدولي وحدود العجز

قضية تشاجوس تكشف أن القانون الدولي، مهما بدا صارماً في نصوصه، يظل معلقاً أمام موازين القوى. فمحكمة العدل الدولية أقرت بوضوح عام 2019 أن فصل الأرخبيل عن موريشيوس كان غير قانوني، وأن على بريطانيا إنهاء سيطرتها "في أسرع وقت". ومع ذلك، لم يتغير شيء فعلي على الأرض، لأن القرار بقي في إطار الرأي الاستشاري غير الملزم، ولأن الدول الكبرى تجاهلت المخرجات القانونية لصالح مصالحها العسكرية.

المشهد يتكرر بحذافيره مع فلسطين: منذ قرار تقسيم 1947، مروراً بعشرات القرارات الأممية التي تدعو لانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة، وصولاً إلى محكمة العدل الدولية التي اعتبرت الجدار العازل غير شرعي عام 2004. كلها سوابق واضحة، لكن إسرائيل بقيت محصنة بالفيتو الأميركي–الغربي، تماماً كما حُميت بريطانيا وواشنطن في ملف تشاجوس. والنتيجة

ما جرى في تشاجوس لا يمكن اختزاله في كونه قصة منسية من سبعينيات القرن الماضي، بل هو مرآة صافية تكشف الممارسة الأميركية عندما يتصل الأمر بالسيطرة على الأرض والممرات البحرية والجغرافيا الاستراتيجية. فمنذ الحرب الباردة وحتى اليوم، لم تتغير العقيدة: الشعوب الصغيرة تُمحى إذا تعارض وجودها مع مشروع القوة العظمى. في هذا السياق، لا يمكن النظر إلى سياسات دونالد ترامب باعتبارها "استثناءً"، بل كامتداد لإرث طويل من التهجير والاقتلاع، بدءاً من الهنود الحمر في الداخل الأميركي، وصولاً إلى تشاجوس في المحيط الهندي، وانعكاساته الآن في غزة.

 

التجربة تقول إن تشاجوس خسرت معركتها لعقود لأن ميزان القوى كان ساحقاً، ولأن العالم اختار الصمت. أما غزة، فهي اليوم أمام مفترق مشابه: إما أن تُدفع قسراً نحو مصير "تشاجوس جديدة"، أرض بلا شعب وشعب بلا وطن، أو أن تُفرض معادلة مغايرة عنوانها الصمود، والقدرة على تحويل الضغط إلى عنصر قوة، لتبقى حاضرة على الخريطة مهما طال الحصار. 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 7 + 9