الخطة الإسرائيلية بالتصعيد نحو مدينة غزة لا تبدو مجرد خطوة عسكرية، بل هي مقامرة سياسية وأمنية ذات أبعاد مركبة فالتوجه نحو السيطرة على المدينة في لحظة إقليمية ودولية حساسة يكشف عن سعي الحكومة الإسرائيلية لفرض وقائع ميدانية تُترجم لاحقًا في مسارات التفاوض، حتى لو جاء ذلك على حساب أزمة إنسانية غير مسبوقة.
دوافع داخلية: هروب إلى الأمام:
في الداخل الإسرائيلي، يعيش بنيامين نتنياهو أزمة متعددة الأبعاد الاحتجاجات الشعبية تتصاعد، عائلات الرهائن تطالبه بقبول اتفاقات تبادل أو وقف إطلاق نار، والمعارضة السياسية تُحمّله مسؤولية إطالة أمد الحرب بدوافع مرتبطة بمستقبله السياسي. المؤسسة العسكرية نفسها لا تُخفي تحفظاتها على عملية حضرية في مدينة مكتظة، حيث الخسائر البشرية المتوقعة ستكون كبيرة والنتائج غير مضمونة.
يُفسر بعض المحللين الخطوة باعتبارها محاولة للهروب إلى الأمام. إذ يرى نتنياهو أن إظهار “القوة والحسم” في غزة قد يُعيد له زمام المبادرة داخليًا، ويُضعف من حجج خصومه الذين يتهمونه بالعجز لكن هذه المقامرة تقوم على فرضية أن الجمهور سيتجاهل الكلفة الباهظة مقابل صورة انتصار رمزي.
الرهان على فرض واقع تفاوضي:
خارجيًا، تسعى إسرائيل إلى خلق واقع جديد قبل أي مسار تفاوضي أو ضغوط دولية ملزمة السيطرة على مركز حضري مثل غزة لا تُقرأ فقط كخطوة عسكرية، بل كأداة ضغط سياسي: فإسرائيل تريد أن تدخل أي مفاوضات مستقبلية وفي يدها ورقة “السيطرة الكاملة”. غير أن هذا الرهان محفوف بالعقبات؛ إذ يعتبر كثير من المراقبين الدوليين أن الاستيلاء على مدينة مأهولة بمئات الآلاف سيكون بمنزلة إعلان فشل كامل لأي حديث عن “حل سياسي”، وسيُعمّق عزلة إسرائيل دبلوماسيًا.
أن “السيطرة على مدينة غزة قد تمنح نتنياهو لحظة سياسية قصيرة الأمد، لكنها ستتحول سريعًا إلى عبء استراتيجي، إذ لا توجد خطة واضحة لليوم التالي”. هذا الرأي يعكس إجماعًا متزايدًا بأن إسرائيل تُغامر أكثر مما تُخطط.
الانعكاسات الإنسانية كارثة متجددة:
البعد الأخطر يظل إنسانيًا غزة، المحاصرة منذ أكثر من 15 عامًا، تواجه انهيارًا شاملًا في البنية التحتية المستشفيات تعمل بطاقة متدنية، المخزون الغذائي في تراجع حاد، والمياه النظيفة شحيحة، تقارير الأمم المتحدة تُشير إلى زيادة ستة أضعاف في معدلات سوء التغذية بين الأطفال منذ مارس الماضي، وهو مؤشر على أن أي عملية واسعة ستدفع الوضع إلى حافة الكارثة.
المحللين وصفوا التوجه الإسرائيلي بأنه “إعلان حكم بالمجاعة على عشرات الآلاف”. فهم يروا أن المعركة في مدينة مكتظة لن تُسفر فقط عن ضحايا مباشرون من القصف، ستفاقم منسوب الوفيات غير المباشرة بسبب الأمراض، نقص الغذاء، وانعدام الخدمات.
التداعيات السياسية والدبلوماسية:
من الناحية السياسية، ستجد إسرائيل نفسها أمام موجة رفض عالمي غير مسبوقة صحيح أن كثيرًا من العواصم الغربية دعمتها في بداية الحرب، لكن الاستمرار في معركة حضرية ضد مدينة بأكملها سيُحرج تلك الحكومات أمام شعوبها وقد بدأت بالفعل أصوات في أوروبا وأمريكا تُطالب بمراجعة الدعم غير المشروط.
أي اجتياح كامل لمدينة غزة سيجعل إسرائيل في مواجهة ليس فقط مع الفلسطينيين، وانما مع حلفائها التقليديين، الذين سيصعب عليهم الدفاع عن سياسة تبدو أقرب إلى العقاب الجماعي منها إلى الدفاع المشروع”.
فتح الجبهات:
إقليميًا، لا يمكن النظر إلى معركة غزة بمعزل عن باقي الجبهات تصعيد كبير في المدينة سيزيد احتمالات اشتعال الضفة الغربية، ويرفع منسوب التوتر بل وقد يدفع أطرافًا إقليمية إلى مراجعة علاقاتها مع إسرائيل كما أن مصر والأردن تحديداً سيواجهان ضغوطًا أمنية وإنسانية إضافية في حال تحولت الأزمة إلى موجات نزوح عبر الحدود.
مأزق اليوم التالي:
أكثر ما يثير قلق المحللين هو غياب إجابة واضحة عن سؤال “اليوم التالي”. فإذا سيطرت إسرائيل على غزة، فمن سيدير المدينة؟ هل ستبقى قواتها داخلها لفترة طويلة، مع ما يعنيه ذلك من استنزاف بشري ومالي؟ أم ستسلمها لسلطة محلية؟ حتى الآن، لا يبدو أن هناك خطة متماسكة، وهو ما يجعل العملية تبدو كمقامرة بلا رؤية استراتيجية.
فخ القوة:
ما يظهر من الخطة الإسرائيلية ليس مشروعًا محسوبًا بعناية، بل مقامرة كبرى تُخفي عجزًا عن إنتاج بدائل سياسية قد تمنح العملية مكسبًا رمزيًا قصير المدى لنتنياهو، لكنها في المقابل تُهدد بانهيار إنساني واسع، وتعمّق عزلة إسرائيل، وتفتح جبهات إقليمية قد تُطيل أمد الحرب بدل أن تُنهيها.
وان إسرائيل تبحث عن صورة نصر، لكنها قد تجد نفسها أمام مرآة هزيمة أخلاقية وسياسية أعمق من أي مكسب عسكري.
بهذا المعنى، فإن المقامرة الإسرائيلية في غزة لا تُعيد تعريف مسار الحرب فقط، بل تعيد رسم حدود المخاطرة السياسية والأخلاقية التي قد تتحول إلى عبء طويل الأمد، لا على الفلسطينيين وحدهم، بل على إسرائيل نفسها.