في خطوة غير مسبوقة منذ عقود، أحرزت سوريا وإسرائيل تقدماً كبيراً نحو توقيع اتفاق أمني برعاية أمريكية، فيما يبدو أنه محاولة لتقليل التوترات الإقليمية دون المساس بالقضايا السياسية الكبرى. هذا التحرك يحمل في طياته رسائل واضحة لكل من الأطراف الإقليمية والدولية، ويطرح تساؤلات مهمة حول انعكاساته على الصراع الفلسطيني ومستقبل التسويات الإقليمية.
تتجه سوريا وإسرائيل نحو توقيع اتفاق أمني برعاية أمريكية، بعد أن أعلنت هيئة البث الإسرائيلية أن الطرفين اتفقا على نحو 80% من البنود الأمنية، مع بقاء نقاط خلاف أساسية، أبرزها طلب إسرائيل إبقاء قواتها في مواقع استراتيجية داخل الأراضي السورية، بما في ذلك محطة الرادار على جبل الشيخ وتل رئيسي في القنيطرة. هذا الاتفاق، في حال انعقاده، يحمل أبعادًا استراتيجية تتجاوز العلاقة الثنائية، لتطال المشهد الفلسطيني والإقليمي.
الاتفاق يركز على الجوانب العسكرية والأمنية، ما يعني تقليص مخاطر المواجهة المباشرة بين سوريا وإسرائيل، خصوصًا على الحدود الشمالية للكيان الإسرائيلي. هذا التهدئة الجزئية قد توفر لإسرائيل فرصة إعادة ترتيب أولوياتها العسكرية نحو الضفة الغربية وقطاع غزة، في حين تمنح دمشق هامش تحرك أكبر في مواجهة التحديات الداخلية والإقليمية، مثل الضغوط الأمريكية والإسرائيلية على الملف الفلسطيني.
بينما يروج الإعلام الغربي والإسرائيلي للاتفاق على أنه خطوة نحو السلام، فإن التوجه العسكري-الأمني لا يشمل أي حل للقضية الفلسطينية. من المرجح أن إسرائيل، في ضوء هذا الاتفاق، ستحاول استخدام الاستقرار على الجبهة السورية لتكثيف سياساتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، سواء عبر الاستيطان أو الإجراءات الأمنية المكثفة. بالمقابل، قد تجد القيادة الفلسطينية نفسها في مواجهة ضغوط دولية وأمريكية لإعادة ترتيب ملف الاعتراف بدولة فلسطينية مستقبلية، في ظل محاولات واشنطن ودمشق لإعادة صياغة التوازن الإقليمي.
الموقف السوري
تعي دمشق أن الاتفاق الجزئي يحقق لها مكاسب محدودة على المستوى الاستراتيجي، لكنه لا يمنحها الاعتراف الإسرائيلي أو أي ضمانات سياسية كبيرة. تعيين مندوب سوري جديد في الأمم المتحدة يقود المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي والأمريكي يعكس رغبة سورية في إدارة الاتفاق بحذر، مع الاحتفاظ بقدرتها على المناورة في ملفات أخرى، مثل دعم حلفائها في لبنان وفلسطين، وإدارة علاقاتها مع القوى الإقليمية.
الرعاية الأمريكية
الرعاية الأمريكية للاتفاق تضع واشنطن في موقع ضاغط على كلا الطرفين، وتفتح الباب أمام استغلال هذا التقدم العسكري كإنجاز دبلوماسي محتمل للرئيس الأمريكي ترامب، بما في ذلك الطموح لجائزة نوبل للسلام. في الوقت نفسه، تهدف واشنطن إلى إبقاء إسرائيل في موقع التفوق الاستراتيجي، مع دعم محدود لمبادرات فلسطينية، ما يعكس استراتيجية متوازنة بين الأمن الإسرائيلي والمطالب الفلسطينية.
تحديات التوازن الإقليمي
الاتفاق يمثل فرصة لخفض حدة التوتر بين دمشق وتل أبيب، لكنه في الوقت نفسه يخلق ديناميكيات جديدة في الإقليم. إسرائيل ستستفيد من استقرار حدودها الشمالية، بينما قد تحاول دمشق استخدام هذا التوافق الجزئي لتعزيز موقفها في ملفات إقليمية أخرى، بما فيها لبنان وفلسطين. الفلسطينيون، على الجانب الآخر، قد يجدون أنفسهم أمام واقع جديد يحتاج إلى إعادة تقييم استراتيجيات الضغط على إسرائيل، في ظل تحولات أمنية ودبلوماسية تتخطى حدودهم التقليدية.
الاتفاق الأمني المرتقب بين سوريا وإسرائيل يأتي بعد سلسلة لقاءات تحضيرية رفيعة المستوى عقدت في باريس، جمعّت الوزيرين أسعد الشيباني من الجانب السوري ورون ديرمر من الجانب الإسرائيلي، برعاية أمريكية مباشرة. هذه اللقاءات تمثل استمرارًا لمساعي الوساطة الدولية الرامية إلى تخفيف التوتر العسكري على الحدود الشمالية لإسرائيل، وهو ملف استراتيجي لطالما شكل نقطة حساسة في العلاقات بين البلدين.
يركز الاتفاق على تقليص التوتر العسكري من خلال آليات محددة تشمل الإبقاء على نقاط مراقبة استراتيجية وتحديد مناطق نفوذ لقوات الطرفين. الهدف الأساسي من هذه الخطوات هو وضع حد لحوادث التصعيد المحتملة، وضمان مراقبة دقيقة لحركة القوات على الحدود، دون الدخول في ملفات سياسية أوسع.
ومن المهم التأكيد أن الاتفاق يظل محدودًا في نطاقه، إذ يقتصر على الجوانب الأمنية والعسكرية، ولا يتضمن أي بنود سياسية تتعلق بالاعتراف المتبادل أو التوصل إلى سلام شامل. هذا التحديد يعكس موقف الطرفين الحذر، إذ يسعى كل طرف إلى تحقيق مكاسب أمنية ملموسة دون الإخلال بالثوابت السياسية أو التنازل عن السيادة، ويعكس أيضًا حساسية المرحلة وأهمية التعامل مع الملفات الأمنية بطريقة استراتيجية ومدروسة.
حتى الآن، تظل الخلافات الجوهرية بين دمشق وتل أبيب مركزية حول إبقاء القوات الإسرائيلية في مواقع استراتيجية داخل الأراضي السورية، وهو الملف الذي قد يشكل عقبة رئيسية أمام توقيع الاتفاق النهائي. أبرز هذه المواقع تشمل محطة الرادار على جبل الشيخ، التي تعد نقطة مراقبة حيوية لإسرائيل على الحدود الشمالية، وتل رئيسي في القنيطرة، وهو موقع استراتيجي يتيح مراقبة تحركات الجيش السوري والمناطق المحيطة بالحدود.
إضافة إلى ذلك، لا تزال نقاط مراقبة الحدود بين الدولتين محل نقاش مستمر، إذ تسعى إسرائيل لضمان سيطرتها على هذه النقاط للحفاظ على أمنها، بينما تصر سوريا على الحفاظ على سيادتها وحدودها الوطنية دون التنازل عن مناطق حيوية. هذه العقبات ليست مجرد مسائل تقنية أو لوجستية، بل تمثل صميم الخلاف الاستراتيجي بين الطرفين، وقد تؤثر بشكل مباشر على توقيت توقيع الاتفاق وشكله النهائي.
من المتوقع أن يستمر النقاش حول هذه الملفات خلال اللقاءات المقبلة، مع احتمال إدخال تعديلات وسطية أو آليات رقابة مشتركة تسمح بتحقيق توازن بين متطلبات الأمن الإسرائيلي وسيادة الأراضي السورية. هذا التعقيد يعكس حساسية المرحلة، إذ يسعى الطرفان إلى التوصل لاتفاق يخفف التوتر العسكري دون المساس بالحدود والسيادة، وهو ما يجعل كل نقطة خلاف محتملة عاملاً حاسمًا في مسار المفاوضات القادمة.