أخلاقيات للبيع: صحفيو رويترز يفضحون انحيازًا فاضحًا لإسرائيل

أماني إبراهيم- وكالة أنباء آسيا

2025.08.22 - 10:33
Facebook Share
طباعة

في الوقت الذي تستمر فيه آلة الحرب الإسرائيلية بحصد الأرواح في قطاع غزة، انفجرت أزمة صامتة داخل وكالة رويترز، إحدى أعرق وكالات الأنباء العالمية، بعد أن كشف صحفيون من داخلها عن ما وصفوه بـ"انحياز مؤسسي" في التغطية لصالح إسرائيل. الأزمة، التي فجّرها تحقيق ديكلاسيفايد، أعادت إلى الواجهة أسئلة قديمة حول دور الإعلام الغربي في إعادة إنتاج السرديات السياسية، وإلى أي مدى تستطيع المؤسسات الصحفية الكبرى الحفاظ على مهنيتها في القضايا ذات الطابع السياسي المعقد.

احتجاجات داخلية ورسائل مسكوت عنها

بداية الشرارة جاءت عقب هجوم 7 أكتوبر 2023، حيث شعر عدد من الصحفيين العاملين في رويترز أن التغطية تفتقد إلى التوازن. هؤلاء الصحفيون أجروا مراجعة داخلية شملت 499 تقريرًا موسومًا بـ"إسرائيل وفلسطين"، لتكشف النتائج عن نمط واضح: اهتمام مضاعف بالقصص المرتبطة بالإسرائيليين، وتغطية محدودة لضحايا غزة، رغم أن عدد قتلاها تجاوز حينها عشرة أضعاف القتلى الإسرائيليين.

 

الأمر لم يقف عند التحليل؛ فقد نظم بعض الصحفيين رسالة مفتوحة إلى الإدارة، طالبوا فيها بالالتزام بالمبادئ المهنية وعدم تهميش الرواية الفلسطينية. إلا أن الإدارة نفت تلقي هذه الرسالة، في حين أكد الصحفيون أن القيادة العليا لم تكتفِ بتجاهل النقد، بل مارست ضغوطًا لكبح أي اعتراض داخلي.

 

إصلاحات شكلية بلا مضمون

تحت ضغط الانتقادات، أجرت رويترز بعض التعديلات على دليلها التحريري في مايو 2024، أبرزها السماح باستخدام مصطلح "إبادة جماعية" مع الإسناد، لكن مع استمرار القيود على استخدام مصطلح "فلسطين"، الذي اقتصر على الإشارة إلى "فلسطين التاريخية حتى عام 1948".

 

تحليل لاحق أظهر أن هذا التغيير لم يكن ذا أثر ملموس: ففي 300 تقرير منشور بين 21 يونيو و7 أغسطس 2024، استخدمت كلمة "إبادة" في 14 تقريرًا فقط، وغالبًا مقترنةً بنفي إسرائيل، وهو نهج لم يُتّبع عند تغطية اتهامات مشابهة وُجّهت إلى روسيا أو قوات الدعم السريع في السودان.

 

عناوين مثيرة للجدل واستقالات احتجاجية

إحدى اللحظات التي فجّرت الغضب الداخلي مؤخرًا كانت عقب اغتيال الصحفي الفلسطيني أنس الشريف، الذي كان يعمل لديها وفاز معها بجائزة بوليتزر، تمثلت في عنوان نشرته الوكالة حيث جاء: "إسرائيل تقتل صحافي الجزيرة الذي تقول إنه زعيم حماس"، ما أثار استياءً واسعًا داخل وخارج المؤسسة.
هذا العنوان لم يُنظر إليه فقط على أنه تبرير للرواية الإسرائيلية، بل أيضًا كتنصّل من مسؤولية الوكالة تجاه أحد كوادرها.

لاحقًا، أعلن أحد المحررين استقالته في أغسطس ، قائلاً في رسالة داخلية: "أدركت أن قيمي لم تعد تتوافق مع قيم الشركة".

 

خبراء: إنكار إبادة جماعية

انتقد خبراء هذا النهج باعتباره نوعًا من "التواطؤ الإعلامي". الباحثة في التاريخ الحديث عصّال راد وصفت سياسة رويترز بأنها "تأطير للفظائع باعتبارها حربًا أو حملة عسكرية، رغم الإجماع بين خبراء القانون الدولي على أنها إبادة جماعية".

 

كما تجاهلت التغطيات قضايا محورية مثل دور الولايات المتحدة وإسرائيل في إفشال مفاوضات وقف إطلاق النار، أو التقديرات التي نشرتها مجلة لانسيت بأن عدد الضحايا في غزة قد يصل إلى 186 ألفًا أو أكثر، وهو ما يجعل الحرب واحدة من أكثر النزاعات دموية في القرن الحالي.

 

الإعلام الغربي والقضية الفلسطينية

القضية داخل رويترز ليست استثناءً؛ بل تعكس مسارًا ممتدًا في الإعلام الغربي تجاه القضية الفلسطينية. تاريخيًا، اعتمدت كبريات المؤسسات الإعلامية على سردية تضع "أمن إسرائيل" في قلب التغطية، مقابل تهميش الانتهاكات التي يتعرض لها الفلسطينيون، من الاستيطان غير القانوني إلى سياسات الفصل العنصري.


هذا التحيز البنيوي، كما يرى نقاد، يرسخ صورة مشوهة عن الواقع ويعيق فهم الجمهور الغربي لطبيعة الصراع.

 

رويترز بين سمعة مهنية وضغوط سياسية

منذ تأسيسها عام 1851، بنت رويترز سمعتها على الحياد والسرعة. لكن الأزمة الحالية تطرح تساؤلاً عميقًا: هل يمكن لمؤسسة إعلامية عملاقة، تمارس عملها تحت ضغوط سياسية واقتصادية هائلة، أن تظل محايدة فعلًا؟
المتحدث باسم الوكالة أكد أن تغطيتهم "عادلة ونزيهة"، لكن الوقائع تكشف عن أزمة ثقة متنامية داخل صفوفها وبين جمهورها.

 

اختبار لمصداقية الإعلام العالمي

تكشف الأزمة في رويترز أن المعركة لم تعد فقط بين الرواية الإسرائيلية والفلسطينية، بل داخل المؤسسات الإعلامية نفسها. وإذا لم تعالج الوكالة جذور الخلل وتعيد الاعتبار للتوازن والموضوعية، فإنها تخاطر بخسارة ما تبقى من رصيدها كوكالة أنباء محايدة.


بالنسبة للصحفيين الذين تمردوا على صمت المؤسسة، فإن القضية لم تعد مجرد معركة مهنية، بل معركة أخلاقية في مواجهة ما يعتبرونه "تواطؤًا مع إنكار الإبادة الجماعية".

 

الإعلام الغربي بين الحياد والتأثير السياسي

التاريخ الإعلامي الغربي مليء بأمثلة على التحيز في تغطية النزاعات. خلال حرب العراق 2003، واجهت المؤسسات الكبرى انتقادات واسعة لتقديمها معلومات غير متوازنة، حيث ركزت على ما وصفته الإدارة الأمريكية بـ"أسلحة الدمار الشامل"، بينما تجاهلت شهادات ميدانية تؤكد غياب تلك الأسلحة. هذا التحيز أتاح للمؤسسات الإعلامية الكبرى أن تكون شريكًا غير مباشر في ترويج أجندة سياسية محددة.

 

الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000–2005)

خلال الانتفاضة الثانية، ركز الإعلام الغربي على "أمن إسرائيل" وعملياتها العسكرية، بينما قلل من تغطية الانتهاكات والاعتقالات الجماعية للفلسطينيين. المصطلحات المستخدمة كانت غالبًا "ردود إسرائيلية دفاعية" أو "أعمال عنف فلسطينية"، وهو ما أعطى صورة مشوهة عن التوازن بين الطرفين في الرأي العام الغربي.

 

النمط المستمر في تغطية غزة

الأزمة الحالية في رويترز تُظهر استمرار هذا النمط: استخدام كلمات مثل "حرب"، "عملية عسكرية"، و"تصعيد" بدلًا من وصف الانتهاكات بالإبادة الجماعية، مع تجاهل حجم الخسائر الإنسانية في غزة مقارنة بالإسرائيليين.
كما أن القيود على استخدام مصطلح "فلسطين" تشير إلى محاولات لتشكيل سردية رسمية تتوافق مع الرؤية الغربية السائدة، مما يضع الإعلام الغربي أمام تحدٍ أخلاقي حقيقي في معالجة الصراعات المعقدة.

 

ضغط سياسي واقتصادي

تُظهر الأمثلة التاريخية أن الإعلام الغربي لا يعمل بمعزل عن الضغوط السياسية والاقتصادية. الموازنات الضخمة، العلاقات مع الحكومات، وامتداد النفوذ السياسي للجهات الممولة، كلها عوامل تحدد درجة الحياد أو الانحياز في التغطية.
في حالة رويترز، يظهر هذا التأثير بشكل واضح في سياسة التحرير، التي تقلل من إبراز الانتهاكات الإسرائيلية في غزة، رغم الأدلة الدولية والميدانية على حجم الكارثة الإنسانية.

 

التاريخ يوضح أن ما يحدث اليوم ليس جديدًا، بل استمرار لمسار طويل من التحيز في الإعلام الغربي تجاه النزاعات التي تشمل الفلسطينيين. ومع ذلك، تُشير الأزمة الحالية إلى تحول نوعي: الصحفيون أنفسهم داخل المؤسسات الكبرى بدأوا يكسرون حاجز الصمت، مطالبين بإعادة النظر في معايير الحياد والمهنية.


هذا يجعل قضية رويترز مثالاً حيًا على الصراع بين الالتزام الأخلاقي والمصالح السياسية داخل الإعلام العالمي، ويطرح أسئلة مركزية حول مصداقية المؤسسات الكبرى في تغطية النزاعات الإنسانية. 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 6 + 6