انسحاب عين الأسد: لماذا الآن؟ وما وراء حسابات التوقيت الأمريكي؟

استجابة لتهديد إيران أم التزاماً بجدول زمني؟

2025.08.22 - 08:49
Facebook Share
طباعة

بدأت القوات الأمريكية فعليًا تفكيك وجودها في قاعدة "عين الأسد" بمحافظة الأنبار، حيث خرجت قوافل عسكرية ومعدات ثقيلة في عملية وُصفت بأنها الأكبر منذ الإعلان عن خطة الانسحاب النهائي من العراق. ورغم أن الاتفاق بين بغداد وواشنطن كان قد حدد منتصف سبتمبر موعدًا لإغلاق القاعدة، فإن اختيار التوقيت المبكر نسبياً أثار تساؤلات حول ما إذا كان انسجامًا مع الجدول المتفق عليه أم أنه ردّ مباشر على تنامي التهديدات المحيطة بالقواعد الأمريكية في المنطقة.

الانسحاب لم يكن قرارًا مفاجئًا. ففي العام 2024 جرى الإعلان عن خارطة طريق تنص على إنهاء مهمة التحالف الدولي القتالية بحلول سبتمبر 2025، وتحويل الوجود الأمريكي إلى أدوار استشارية وتدريبية محدودة في أربيل. غير أن المتغيرات الأمنية على الأرض، بما فيها تصاعد هجمات الطائرات المسيّرة والصواريخ، وضعت القاعدة تحت ضغط متزايد، وجعلت الالتزام بالموعد النهائي محفوفًا بالمخاطر إذا لم يبدأ الإخلاء مبكرًا.

يأتي الانسحاب في وقت بالغ الحساسية، إذ تشهد المنطقة تصعيدًا إيرانيًا متواصلًا عبر أذرعها العسكرية في العراق وسوريا واليمن ولبنان. الفصائل المسلحة المدعومة من طهران كثّفت منذ مطلع العام الحالي استهدافاتها للقواعد الأمريكية باستخدام طائرات مسيّرة متطورة، ما جعل عين الأسد تحديدًا في مرمى تهديد مستمر. هذه الهجمات لم تقتصر على الجانب العسكري فقط، بل حملت رسائل سياسية صريحة بأن الوجود الأمريكي بات غير مرحّب به وأنه مكلف أكثر من أي وقت مضى.

الحسابات الأمريكية في التوقيت

من هنا يبرز سؤال التوقيت: هل أرادت واشنطن أن تُظهر التزامها بالاتفاق مع بغداد قبل حلول سبتمبر لتفادي مشهد ضاغط أو انسحاب متسرع تحت النار؟ أم أنها اختارت هذا التاريخ لتوجّه إشارة إلى طهران بأن الانسحاب قرار سيادي لا يُملى بالقوة، وإنما يُدار وفق إيقاع محسوب يمنع استثمار المشهد كـ"انتصار" للفصائل؟ هذه الاعتبارات تجعل من 22 أغسطس تاريخًا رمزيًا أكثر مما هو إداري.

التوقيت كرسالة مزدوجة: التزام واحتواء
التوقيت هنا له وجهان. على مستوى المعلن، هو تنفيذ لبنود اتفاقية دولية بين حكومتين؛ وعلى مستوى غير معلن، هو رسالة استراتيجيّة موجهة لإيران: الانسحاب لا يعني تراجعًا خوفًا، بل إعادة تموضع متحكّم لتقليل نقاط الاحتكاك. الولايات المتحدة تسعى لتفادي سيناريوهات انسحاب فوضوي تُستغل داخليًا وإقليميًا كسردية انتصار؛ لذا الإخلاء المنظّم قبل منتصف سبتمبر يخلق سجلًا رسميًا لالتزام مُدار، وفي الوقت نفسه يقلّص التعرض العملي لهجماتٍ متزايدة.

القدرة العراقية: بين الرمز والتطبيق
بغداد تروّج لخطوة تحويل القاعدة إلى سيطرة عراقية كدليل على "الاستعادة السيادية"، لكن الواقع الميداني يتطلب أكثر من بيان رمزي. تولي زمام الأمن في الأنبار يعني تحمل عبء لوجستي واستخباراتي هائل: حماية البنى التحتية، إدارة المسارات، مراقبة التحركات الجوية والصاروخية، وتفكيك الشبكات المحلية المدعومة إقليمياً. نجاح هذا التحول يتوقف على سرعة تزويد القوات العراقية بمعلومات استخبارية آنية، ودعم لوجستي، وقدرة على الرد السريع دون أن تتحول هذه الردود إلى شرارة لتصعيد أكبر.

ردود الفعل الفصائلية وإمكانيات الاستغلال
الانسحاب يقدم فرصة فورية لبعض الفصائل المدعومة من إيران؛ إما لرفع سقف العمليات لإظهار نفوذ محلي، أو لاستغلال الفراغ لتوسيع نقاط سيطرتها. لكن الفصائل أيضًا تواجه حسابات داخلية: أي تصعيد مفرط قد يدفع بغداد لطلب تدخّل خارجي أو يجر المنطقة إلى دوامة لا ترغب فيها طهران. لذلك فإن الفترة الانتقالية ستكون مرحلة اختبار: هل تكف الفصائل عن تصعيد مفتوح أم تختار المناورات السياسية وغير المباشرة؟ الجواب سيحدده مزيج من الحسابات المحلية والإقليمية.

الاستراتيجية الأمريكية بعد عين الأسد: تموضع وليس غيابًا
الخطوة لا تعني انسحابًا أميركيًا تامًا من العراق أو المنطقة؛ بل تحولًا في الأدوات: الاعتماد على قنوات استشارية، وحدات صغيرة متنقلة، وتجهيزات استخبارية عن بعد أكثر من قواعد ثابتة ضخمة. هذه الاستراتيجية تهدف إلى الحفاظ على قدرات ردع وتأثير من دون تكلفة قواعد كبيرة معرضة لهجمات متكررة، وبنفس الوقت تتيح لواشنطن مرونة دبلوماسية لتعديل حضورها بحسب التحولات الإقليمية.

التداعيات الإقليمية: تراجع مباشر أم تحالفات جديدة؟
إقليميًا، تلتقط طهران الإشارة: تقليص الوجود الأمريكي المباشر يُفسح لها مجالاً لزيادة نفوذها عبر أدواتها التقليدية. لكن في الوقت نفسه، تحرص دول إقليمية أخرى على عدم إحداث فراغ أمني يهدد خطوط مصالحها؛ ما قد يدفع إلى إعادة ضبط تحالفات محلية أو شكلٍ من التوافقات الأمنية الإقليمية الجديدة. النقطة الأساسية أن المشهد المقبل لن يكون أحادي البُعد؛ إنه مسرح مفاوضات على الأرض تتبارى فيه القوة الرمزية والقدرة العملية.

يبقى السؤال معلقًا: هل انسحاب عين الأسد هو تنفيذ هادئ لاتفاق سياسي مضى عليه عام، أم أنه في جوهره استجابة اضطرارية لتهديدات إيرانية متصاعدة؟ الواقع أن الأمر يحمل البعدين معًا، لكن ما سيتحدد في الأسابيع المقبلة هو قدرة بغداد على ملء الفراغ، ومقدار ما ستستثمره طهران ووكلاؤها في تصوير الانسحاب كإنجاز استراتيجي لهم.

منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، شكّلت قاعدة عين الأسد في محافظة الأنبار إحدى أبرز نقاط الارتكاز العسكري لواشنطن. القاعدة التي عُرفت سابقًا بـ"قاعدة القادسية الجوية"، تحولت إلى مركز عملياتي ضخم، استُخدمت لإدارة العمليات الجوية والبرية ضد التمرد العراقي، ولاحقًا ضد تنظيم "القاعدة".

بعد انسحاب القوات الأمريكية نهاية عام 2011، بدا أن وجود عين الأسد قد انتهى، غير أن تمدد تنظيم "داعش" عام 2014 دفع واشنطن للعودة إليها ضمن إطار التحالف الدولي، لتصبح القاعدة مقرًا لقيادة وتنسيق العمليات ضد التنظيم. منذ ذلك الحين، لم يكن الوجود الأمريكي مجرد مسألة دعم عسكري، بل ارتبط أيضًا بمعادلات النفوذ الإقليمي والتوازن مع إيران.

على مدى السنوات الأخيرة، تعرضت القاعدة مرارًا لهجمات صاروخية وبطائرات مسيّرة نُسبت إلى فصائل عراقية مقربة من طهران. هذه الهجمات كانت رسالة مباشرة بأن استمرار التواجد الأمريكي غير مرغوب فيه، وأن العراق بات ساحة مفتوحة لتجاذبات أوسع بين واشنطن وطهران.

الجدل السياسي داخل العراق أيضًا لعب دورًا مهمًا، حيث تصاعدت الدعوات في البرلمان والحكومة لإنهاء "الوجود القتالي" الأمريكي، خصوصًا بعد اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس مطلع 2020، وهو الحدث الذي فجّر موجة غضب شعبي ورسمي ضد الولايات المتحدة.

من هنا، جاء الاتفاق الأخير بين بغداد وواشنطن ليضع جدولًا زمنيًا لإنهاء مهمة التحالف، وتحويله إلى شراكة أمنية مدنية، وهو ما انعكس مباشرة في بدء انسحاب القوات من عين الأسد في أغسطس 2025.

هذا الانسحاب لا يمكن فصله عن التوترات الإقليمية الأوسع: تصاعد التهديدات الإيرانية بالرد على الضغوط الأمريكية والإسرائيلية، التوتر في مضيق هرمز والبحر الأحمر، وتنامي دور الفصائل المسلحة في العراق وسوريا واليمن. كلها عناصر تجعل من قرار توقيت الانسحاب خطوة تحمل أبعادًا سياسية وأمنية تتجاوز الساحة العراقية إلى مجمل معادلات الشرق الأوسط. 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 1 + 2