هل يشكّل تسليم السلاح الفلسطيني ورقة ضغط على حزب الله؟

وكالة أنباء آسيا

2025.08.22 - 07:58
Facebook Share
طباعة

لم يكن مشهد الشاحنة الصغيرة التي خرجت من مخيم برج البراجنة محملة بأكياس تضم بنادق وقذائف مجرد صورة عابرة في بيروت، بل بدا وكأنه إعادة فتح لملف ظلّ مغلقًا لعقود: ملف السلاح الفلسطيني في لبنان. فقد أعلنت حركة "فتح" تسليم دفعة من الأسلحة إلى الجيش اللبناني في إطار تفاهمات أُقرت في مايو الماضي بين الرئيس محمود عباس وقيادة الجيش، وسط تساؤلات عن مدى جدية الخطوة وما إذا كانت بداية لمسار طويل لإنهاء وجود السلاح الفلسطيني خارج سلطة الدولة، أم أنها مجرد إجراء رمزي سرعان ما يتبدد.

ملف السلاح الفلسطيني في لبنان ليس جديدًا، بل هو أحد أقدم القضايا الشائكة التي واجهت الدولة اللبنانية منذ ستينيات القرن الماضي. البداية تعود إلى اتفاق القاهرة عام 1969 الذي وقّعه ياسر عرفات مع قائد الجيش اللبناني وقتها العماد إميل بستاني، وأضفى شرعية على الوجود العسكري الفلسطيني داخل المخيمات. هذا الاتفاق منح منظمة التحرير الفلسطينية حرية العمل المسلح من الأراضي اللبنانية ضد إسرائيل، وأدى إلى تحويل المخيمات إلى ما يشبه “المناطق المستقلة” خارج سلطة الدولة.

مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، أصبح السلاح الفلسطيني أحد أبرز عناصر الصراع الداخلي، حيث تحالفت بعض الفصائل مع قوى لبنانية ضد أخرى. وعقب الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 وخروج منظمة التحرير من بيروت، خفّ تأثير الفصائل، لكن السلاح لم يُنزع نهائيًا وظل المخيم الفلسطيني مساحة مغلقة لا تدخلها السلطات اللبنانية.

في التسعينيات، وبعد اتفاق الطائف، جرت محاولات متكررة لإعادة بحث الملف، إلا أن المخيمات بقيت محرّمة على الجيش. وفي عام 2005، عقب اغتيال رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان، عاد النقاش بقوة حول السلاح الفلسطيني، وتم الاتفاق بين الحكومة اللبنانية والفصائل على “حوار جاد” بشأن تنظيم السلاح داخل المخيمات وخارجها، لكن التنفيذ بقي محدودًا.

المحطة الأكثر دموية جاءت في عام 2007 مع معركة مخيم نهر البارد بين الجيش اللبناني وتنظيم “فتح الإسلام”. انتهت المعركة بتدمير المخيم جزئيًا وسقوط مئات القتلى، وأثبتت أن ترك السلاح خارج سلطة الدولة يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن اللبناني. ورغم الدمار الذي لحق بالمخيم، لم يؤدِّ ذلك إلى نزع سلاح باقي المخيمات، بل على العكس، زادت الفصائل تمسكًا بسلاحها بوصفه “خط الدفاع الأخير”.

وفي الأعوام التالية شهد مخيم عين الحلوة مواجهات متكررة بين فصائل متنازعة، عززت المخاوف اللبنانية من تحول هذه المخيمات إلى قنابل موقوتة.

منذ ذلك الحين، ظل الملف يُفتح بشكل متقطع كلما اندلعت اشتباكات في مخيم عين الحلوة أو غيره، لكن دون التوصل إلى اتفاق شامل. المبادرة الأخيرة التي بدأت بتسليم رمزي في برج البراجنة تمثل أول محاولة عملية منذ سنوات لإعادة طرح فكرة إخضاع السلاح الفلسطيني لسلطة الدولة.

اليوم، تأتي خطوة "فتح" في برج البراجنة في ظل سياق سياسي وأمني مختلف. فمن جهة، يواجه لبنان ضغوطًا دولية متزايدة لضبط السلاح غير الشرعي في أراضيه، خصوصًا مع تصاعد الجدل حول سلاح حزب الله وربط أي مساعدات دولية بإصلاحات سياسية وأمنية شاملة. ومن جهة أخرى، يجد الرئيس محمود عباس نفسه أمام ضغوط داخلية فلسطينية وإقليمية لدعم خيار "الدولة" وضبط الفصائل، في وقت تتصاعد فيه الخلافات بين السلطة الفلسطينية من جهة وحركتي حماس والجهاد الإسلامي من جهة أخرى. رفض الحركتين المشاركة في تسليم السلاح أكد أن الخطوة ما زالت جزئية وأن الانقسام الفلسطيني يعرقل أي مسار نحو توافق شامل.

ما يميّز المشهد الراهن هو محاولة ربط عملي لتفاهم سياسي معلَن من طرفين يُفترض أنهما مُمثِّلان: قيادة فلسطينية (أعلن عنها في مايو) وحكومة/قيادة لبنانية. الخطوة التي قادتها "فتح" في برج البراجنة وصفتها بعض المصادر بأنها دفعة أولى وجزئية، لكن تفسير هذه الجزئية يفضي إلى أكثر من قراءة. من زاوية الدولة اللبنانية الهدف المعلن هو استعادة سلطة السيادة وتقليص الفوضى الأمنية التي تهدد محيط المخيمات والحدود. من زاوية فصائل مثل فتح فالإجراء يقرأ كحركة سياسية داخلية: إظهار قدرة على التفاوض والتنسيق مع الدولة، وربما امتلاك ورقة لتحسين الموقف السياسي لدى شركاء دوليين. أما من زاوية فصائل أخرى مثل حماس والجهاد فهي خطوة مُشكَّكة، بل مُعلنة الامتناع عنها أو اعتبارها "شأنًا تنظيميًا" داخليًا لا يطال الأساس المؤسساتي للسلاح. هذا الانقسام يضعف أي منطق إجماعي يجعل من النزع عملية حقيقية وقابلة للتعميم.

المعنى العملي لما جرى هو واضح: ما سُلّم حتى الآن هو ما تصفه الأطراف بـ"السلاح غير القانوني" أو الفائض أو المهرب. هذه عتبة أساسية لكنها ليست عتبة كافية لمنع إعادة التسليح أو لقطع شبكات التمويل والتهريب التي تغذي الأسواق السوداء، ناهيك عن أن "الأسلحة الخفيفة الشخصية" تبقى جزءًا من نظام اجتماعي يربط بين الهوية والأمن الذاتي للاجئين. أي محاولة لقراءة هذا الملف بسطحية ستفشل لأن السلاح هناك ليس فقط أداة قتالية بل يُعمل أيضًا كرمز سياسي ووقاية معاشية لمجتمع يعيش في ظل حرمان قانوني دائم.

من زاوية الحقوق، تبقى المعادلة معبّرة عن فشل تاريخي في بناء بدائل مقنعة للاعتماد على السلاح كأمن ذاتي. قيود العمل والملكية والاندماج الاجتماعي التي يعانيها اللاجئون الفلسطينيون في لبنان لا تُفسَّر كقضية إنسانية فقط، بل كمدخل أساسي لأي سياسة أمنية منصفة. تجارب نهر البارد وعين الحلوة علمتنا أن الاستجابة العسكرية دون سياسات حقوقية واجتماعية تعيد إنتاج العنف وتغذي دورات أجيال من الإحباط. بهذا المعنى، أي خطة لنزع السلاح يجب أن تقترن بحزمة امتيازات واضحة، لا مجرد وعود سياسية غامضة، وإلا فإن النزع سيبقى هزلاً رمزيًا ينهار أمام أول اختبار واقعي.

على المستوى الإقليمي والدولي، يلعب السياق دورًا حاسمًا في تفسير توقيت ومضمون التحركات. الضغوط على لبنان بشأن ضبط الحدود ومنع تهريب السلاح إلى الساحات المتوترة تمتد من قلق دولي إلى حسابات إقليمية تقاطع مصالح أمريكية وفرنسية وسعودية وإيرانية. في هذا الإطار، تصبح المبادرات الصغيرة داخل المخيمات جزءًا من لعبة أكبر: اختبار قدرة الدولة على تنفيذ ما يطلبه المجتمع الدولي مقابل دعم أو ضغط سياسي لاحق. لكن هذا الربط غالبًا ما يؤدي إلى مشكلات إضافية؛ إذ أن استخدام ملف مخيمات فلسطينية كأداة تفاوض لملفات أخرى، وعلى رأسها ملف سلاح حزب الله، يثير اتهامات مزدوجة وتشكيكًا بوجود معيار واحد لتطبيق القانون وسلطة الدولة.

السيناريوهات الممكنة لمدى استمرار وتأثير هذا المسار واضحة في ثمارها المحتملة. قد يتحول التسليم الجزئي إلى عملية تدريجية تُدار بعناية وبمقايضات واضحة بحقوق ومعاش؛ في هذه الحالة، يمكن أن نرى تحسينًا نسبيًا في الأمن المحلي وتراجعًا في حوادث اشتباك محدودة. في السيناريو الأقل تفاؤلًا، يغدو التسليم مجرد واجهة إعلامية تُستغل للوصول إلى تمويل أو دعم خارجي دون تغييرات حقيقية على الأرض، فتستمر شبكات التمويل والسوق السوداء وتهيمن ديناميكيات الاستقطاب. وفي سيناريو ثالث وأكثر تعقيدًا، قد يؤدي حادث أمني أو محاولة تطبيق ميداني قاسية إلى تصعيد يُعيد الأشهر أو السنوات إلى الوراء، ما يفضي إلى مزيد من الهدر الأمني والإنساني.

إجمالًا، ما جرى في برج البراجنة وفي مخيم البص جنوبًا هو فصل جديد في قصة طويلة ومعقّدة. إن قراءة هذا الفصل بعين واقعية تعني الاعتراف بأن السلاح في المخيمات ليس مشكلة أمنية مغلقة تُحلّ بالشكل وحده، بل هو قضية مرتبطة بهياكل اقتصادية واجتماعية وسياسية راسخة. أي نجاح في نزع السلاح يستلزم صفقة شاملة تتناول الأمن والحقوق والاندماج، تتضمن التزامًا عمليًا بتحسين شروط العيش وتقديم بدائل اقتصادية وقانونية، إضافة إلى آليات رصد ومساءلة شفافة للتعامل مع ما يُسلَّم وكيفية تخزينه أو تدميره. وإلا فسيظل المشهد الذي شاهدناه مجرد لقطة رمزية تُوظف سياسياً في سياقات داخلية وخارجية، بينما تواصل المخيمات مقاومتها البطيئة للتغيّر بسبب غياب البدائل الحقيقية.

على المستوى اللبناني، ينظر بعض السياسيين إلى الخطوة كاختبار لنوايا الدولة وقدرتها على فرض سلطتها، بينما يعتبرها آخرون مجرد محاولة للتغطية على العجز في التعامل مع ملف حزب الله. فالمقارنة تبدو حاضرة بقوة: إذا كان تسليم بضع بنادق في برج البراجنة يحظى باحتفاء رسمي ودولي، فكيف سيكون التعامل مع الترسانة الهائلة لحزب الله التي تفوق قدرات الجيش اللبناني نفسه؟ هذا السؤال يعيد الجدل الداخلي إلى نقطة التوازن المستحيل بين الدعوات لسيادة الدولة ومتطلبات الواقع السياسي والأمني.

الخلاصة، لا يمكن النظر إلى خطوة تسليم السلاح في برج البراجنة بمعزل عن التاريخ الطويل لهذا الملف. فمنذ اتفاق القاهرة إلى نهر البارد وعين الحلوة، ظلّ السلاح الفلسطيني قضية مؤجلة، تُفتح في أوقات الأزمات وتُغلق عند أول اختبار حقيقي. ما جرى مؤخرًا قد يكون بداية لمسار جديد يفتح الباب أمام تسوية أوسع، لكنه قد ينتهي أيضًا كسابقيه إذا لم يترافق مع مشروع سياسي شامل يضمن حقوق الفلسطينيين ويوازن بين تعقيدات الداخل اللبناني وضغوط الخارج. ومع كل ذلك، يبقى السؤال الأكبر: هل تملك بيروت فعلًا القدرة على حسم هذا الملف، أم أن ما حدث لا يتعدى كونه فصلًا جديدًا في قصة قديمة لم تصل بعد إلى نهايتها؟

ما يجري اليوم في المخيمات الفلسطينية لا يمكن عزله عن النقاش الأوسع حول مستقبل السلاح في لبنان. فبينما يشدد الجيش اللبناني على أن جمع الأسلحة في المخيمات يهدف لحماية اللاجئين ومنع تكرار سيناريوهات الفوضى، يرى مراقبون أن الخطوة تشكّل “بروفة سياسية وأمنية” لاختبار إمكان فتح الملف الأكبر: سلاح حزب الله.

فإذا نجحت الدولة في ضبط السلاح الفلسطيني دون انفجار أمني أو سياسي، فسيُستخدم المثال لتبرير مطالب مماثلة بإخضاع ترسانة حزب الله لسلطة الدولة. أما إذا فشلت، فسوف تتعزز حجج الحزب القائلة بأن أي محاولة لنزع سلاحه ستؤدي إلى زعزعة الاستقرار وربما إشعال حرب أهلية جديدة.

المفارقة أن حزب الله نفسه يتعامل بحذر مع الخطوة؛ فهو لا يعارض علنًا تسليم السلاح الفلسطيني “غير القانوني”، لكنه في الوقت ذاته يخشى أن يُستَخدم ذلك كمدخل للمطالبة بتجريد سلاحه. ومن هنا، فإن مصير المبادرة الفلسطينية–اللبنانية قد يتحول إلى معيار أساسي لتحديد حدود النقاش المستقبلي حول معادلة “الجيش والشعب والمقاومة”، التي يقوم عليها التوازن اللبناني منذ 2006. 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 4 + 3