في خطوة وُصفت بأنها "هجوم صارخ" على استقلال العدالة الدولية، أعلنت الولايات المتحدة بقيادة إدارة دونالد ترامب ووزير الخارجية ماركو روبيو عن فرض حزمة جديدة من العقوبات على أربعة من أبرز مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية، بينهم قضاة ومدعون عامون، وذلك ردًا على تحقيقات تتعلق بجرائم حرب مزعومة ارتكبها أمريكيون وإسرائيليون. هذه العقوبات، التي تشمل تجميد الأصول وحظر الدخول إلى الأراضي الأمريكية، تعكس تصعيدًا متدرجًا بدأ منذ مطلع العام ضد المحكمة، وتفتح فصلًا جديدًا في التوتر بين واشنطن والهيئات القضائية الدولية.
ماركو روبيو، الذي يقود الملف الدبلوماسي في إدارة ترامب، وصف المحكمة الجنائية الدولية بأنها تمثل "تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الأمريكي"، معتبرًا أن تحقيقاتها بشأن الانتهاكات في أفغانستان وفلسطين تدخل ضمن ما سماه "القانون العسكري الموجّه ضد الدول ذات السيادة". وأوضح أن الهدف من هذه الإجراءات هو وقف ما تراه واشنطن "تسييسًا للعدالة" و"استهدافًا متعمدًا" للولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل.
العقوبات شملت القاضية الكندية كيمبرلي بروست، والقاضي الفرنسي نيكولا يان غيو، إلى جانب المدعية من فيجي نزهت شاهيم خان، والمدعي السنغالي مام مانداي نيانغ. وقد ارتبطت أسماء هؤلاء مباشرة بقرارات حساسة أصدرتها المحكمة، من بينها الإذن بفتح تحقيق في جرائم ارتكبها الجيش الأمريكي في أفغانستان، وإصدار مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت. وهو ما يفسر الحدة التي تعاملت بها واشنطن وتل أبيب مع هؤلاء القضاة والمدعين.
تضع العقوبات الأمريكية المحكمة الجنائية الدولية أمام مفترق طرق حاسم: فإما أن تؤدي الضغوط إلى تقليص فعاليتها وتحويلها إلى مؤسسة معزولة عاجزة عن ملاحقة القوى الكبرى، أو أن تصبح هذه المواجهة حافزًا لمزيد من التماسك داخلها وتعزيز دعمها من قبل الدول المؤمنة بدور القانون الدولي.
المفارقة أن ما تراه واشنطن وإسرائيل محاولة لإضعاف المحكمة قد يتحول إلى فرصة لإعادة تعريف دورها كأداة لمساءلة حتى الأقوياء، وهو ما يمنحها شرعية أكبر أمام الرأي العام العالمي. لكن قدرة المحكمة على الصمود ستتوقف على مدى استعداد الدول الأوروبية والدول النامية الكبرى للوقوف خلفها، وتوفير مظلة سياسية ومالية تقيها من الضغوط الأمريكية.
في المحصلة، تمثل الأزمة الراهنة اختبارًا لمفهوم العدالة الدولية برمته: هل هي نظام قابل للانحناء أمام موازين القوة، أم مؤسسة مستقلة قادرة على فرض القانون حتى على أكثر الدول نفوذًا؟ الجواب سيتحدد في السنوات القليلة المقبلة، مع استمرار الصراع بين واشنطن وحلفائها من جهة، والمدافعين عن استقلال المحكمة من جهة أخرى.
ردود الفعل الدولية جاءت سريعة، إذ دانت المحكمة الجنائية الدولية ومعها الأمم المتحدة العقوبات الجديدة، واعتبرتها "محاولة لتقويض استقلال القضاء الدولي وإضعاف المنظومة القانونية العالمية". على الجانب الآخر، رحّبت إسرائيل بهذه الخطوة، واعتبرتها بمثابة "انتصار دبلوماسي" ورسالة واضحة للمحكمة بأنها لن تستطيع المساس بقيادتها العسكرية والسياسية.
هذه التطورات تأتي امتدادًا لسياسات متشددة أطلقتها إدارة ترامب منذ عودتها للسلطة، حيث سبق أن أصدر البيت الأبيض أمرًا تنفيذيًا في فبراير 2025 يتيح فرض عقوبات واسعة على مسؤولي المحكمة، تبعته حزمة أخرى في يونيو شملت أربعة قضاة آخرين. ويبدو أن واشنطن مصممة على المضي في هذا النهج حتى إبطال فعالية المحكمة في القضايا المتعلقة بها وبإسرائيل.
ومنذ تأسيسها عام 2002، شكّلت المحكمة الجنائية الدولية أداة لمساءلة المسؤولين عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، لكنها واجهت تحديات متكررة من قِبل قوى كبرى ترى في صلاحياتها تهديدًا لسيادتها. الولايات المتحدة وإسرائيل، اللتان لم تنضما إلى نظام روما المؤسس للمحكمة، اعتبرتا منذ البداية أن هذه الهيئة القضائية يمكن أن تُستخدم ضد مصالحهما الإستراتيجية.
الخطوة الأمريكية الأخيرة تعكس انتقال الصراع مع المحكمة إلى مستوى أكثر حدة، إذ لم تعد واشنطن تكتفي بعدم التعاون، بل باتت تستخدم أدوات العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية لإضعافها. هذا التصعيد قد يخلق انقسامًا أعمق بين الدول الغربية، لا سيما أن الاتحاد الأوروبي ودول كبرى كألمانيا وفرنسا تدعم المحكمة وتراها ركيزة أساسية في النظام الدولي القائم على القانون.
اللافت أن العقوبات تتزامن مع مرحلة حساسة في الشرق الأوسط، حيث تواجه إسرائيل ضغوطًا دولية متزايدة بسبب حربها على غزة، فيما يثير التحقيق في الجرائم الأمريكية في أفغانستان تساؤلات حول حدود المساءلة الدولية. ومع تصاعد هذا التوتر، تبدو المحكمة الجنائية الدولية أمام اختبار وجودي: إما أن تثبت استقلالها وقدرتها على الصمود، أو أن تنحسر مكانتها بفعل الضغوط السياسية والاقتصادية المفروضة عليها.
تفتح الخطوة الأمريكية جبهة جديدة داخل أروقة مجلس الأمن الدولي، حيث يُتوقع أن تتحول المحكمة الجنائية الدولية إلى محور خلاف حاد بين واشنطن من جهة، والدول الأوروبية الداعمة للمحكمة من جهة أخرى. فرنسا وألمانيا، اللتان ترى كل منهما في المحكمة أداة لتعزيز النظام القائم على القانون الدولي، اعتبرتا العقوبات "سابقة خطيرة" قد تُقوّض هيبة المؤسسات الدولية. ومن المرجح أن تدفع هذه الأزمة باتجاه سجالات داخل مجلس الأمن حول حدود صلاحيات القضاء الدولي، ودور المجلس في حماية استقلاله أو التواطؤ في إضعافه.
في المقابل، ستسعى واشنطن لاستثمار نفوذها داخل المجلس لتقليص أي محاولات أوروبية لدعم المحكمة بشكل عملي، سواء عبر التمويل أو عبر تمرير قرارات تضمن حمايتها. ويُتوقع أن تستخدم الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) لعرقلة أي قرار قد يتضمن إدانة صريحة لسلوكها، مما يعمّق الانقسام التقليدي داخل المجلس بين القوى الغربية المتحالفة عادةً، ويزيد من استقطاب المواقف الدولية.
أما على مستوى العلاقات عبر الأطلسي، فإن العقوبات قد تعيد إنتاج التوتر الذي شهدته العلاقات الأمريكية – الأوروبية في فترات سابقة، خاصة خلال غزو العراق عام 2003 حين رفضت فرنسا وألمانيا الانخراط في الحرب. اليوم، ومع إدارة ترامب الثانية ذات النهج الأحادي، يبدو أن الفجوة مع أوروبا ستتسع مجددًا، إذ ترى الأخيرة أن واشنطن تُضعف قواعد القانون الدولي في وقت تحتاج فيه القارة العجوز إلى منظومة عدالة قوية لمواجهة الأزمات العالمية.
ومع ذلك، تظل قدرة أوروبا على مواجهة الولايات المتحدة محدودة، فاعتمادها الأمني على واشنطن عبر حلف الناتو يجعل من الصعب عليها تبني سياسة صدامية، ما يتركها محصورة غالبًا في بيانات إدانة وتصريحات سياسية دون ترجمة عملية. هذا التوازن المعقد بين الرفض العلني والقبول الضمني سيحدد شكل المرحلة المقبلة في العلاقة بين الطرفين، وقد يعزز من توجه بعض الدول الأوروبية إلى تعزيز العمل القضائي على المستوى الإقليمي كخيار بديل لمواجهة التحديات الدولية.
تأثير العقوبات على عمل المحكمة من الداخل
من الناحية العملية، تمثل العقوبات الأمريكية تحديًا مباشرًا للبنية الداخلية للمحكمة الجنائية الدولية. إذ لا تقتصر آثارها على تجميد أصول بعض القضاة والمدعين أو منعهم من السفر إلى الولايات المتحدة، بل تمتد إلى تهديد أوسع يتمثل في عزل المحكمة ماليًا وسياسيًا عن جزء من النظام الدولي.
أولًا، على المستوى الشخصي، تضع العقوبات القضاة والمدعين المستهدفين في دائرة الضغط النفسي والمهني، ما قد ينعكس على استقلال قراراتهم في المستقبل. فإدراكهم أن أي خطوة ضد مسؤولين أمريكيين أو إسرائيليين قد تكلّفهم عقوبات جديدة قد يزرع حالة من "الردع غير المباشر" داخل أروقة المحكمة، ويجعل بعضهم أكثر حذرًا في إدارة الملفات الحساسة.
ثانيًا، على المستوى المؤسسي، يُخشى أن تؤدي هذه العقوبات إلى تقليص التعاون الدولي مع المحكمة، إذ قد تتردد بعض الدول في تبادل المعلومات أو تسليم المشتبه بهم خشية التعرض لانتقام أمريكي. وهو ما يُضعف جوهر عمل المحكمة الذي يقوم على التعاون العابر للحدود.
ثالثًا، من زاوية التمويل، ورغم أن الولايات المتحدة ليست طرفًا ممولًا للمحكمة، فإن قدرتها على الضغط على حلفائها، ولا سيما في أوروبا وآسيا، قد تؤدي إلى إضعاف المساهمات المالية أو تأخيرها، بما يعرقل قدرة المحكمة على إدارة تحقيقاتها والمحاكمات الجارية.
ومع ذلك، يرى بعض المحللين أن هذه العقوبات قد تُحوّل المحكمة إلى رمز للمقاومة القضائية في وجه التدخلات السياسية، وتدفع القضاة إلى التشبث أكثر بمبدأ الاستقلالية لإثبات شرعيتهم. وفي المقابل، يخشى آخرون أن تُدخل المحكمة في "عزلة متزايدة" تجعلها عاجزة عن تنفيذ قراراتها، خصوصًا في القضايا التي تطال قوى عظمى لا تعترف أصلاً بولايتها.