لبنان بين ضغوط نزع السلاح وصراع تمديد اليونيفيل

أماني إبراهيم- وكالة أنباء آسيا

2025.08.21 - 08:48
Facebook Share
طباعة

في وديان جنوب لبنان، وتحديدًا قرب السلوكي، تتحرك وحدات من قوات حفظ السلام الفرنسية ضمن بعثة «اليونيفيل» بين الأحراش والأودية المهجورة، لتكتشف بقايا مواقع كان يستخدمها مقاتلو حزب الله خلال الحرب الأخيرة مع إسرائيل. المشهد الذي وثقته عدسة وكالة «أسوشيتد برس» يكشف عن خنادق وأكواخ خشبية تحتوي على بطانيات مهترئة وألعاب ورقية وكتب دينية، في صورة تختلط فيها بقايا الحياة اليومية مع آثار العسكرة، بما يعكس خط التماس المعلق بين هدنة هشة وواقع أمني متفجر.

 

عمليات ميدانية تكشف مخلفات النزاع

الجنود الفرنسيون، المنتشرون منذ أشهر في المنطقة، عثروا على أسلحة خفيفة ومعدات حربية قديمة، إضافة إلى ألغام وعبوات ناسفة. ورغم مرور أشهر على وقف إطلاق النار في نوفمبر الماضي، فإن الاكتشافات الميدانية تذكّر بأن الجنوب اللبناني ما يزال مسرحًا للنزاع المؤجل.

 

الحادثة الأكثر دلالة وقعت مؤخرًا حين انفجر مستودع للأسلحة أثناء محاولة الجيش اللبناني تفكيكه، ما أسفر عن مقتل جنود لبنانيين وأعاد تسليط الضوء على خطورة بقايا الحرب وعلى هشاشة الأمن في المنطقة.

 

إسرائيل تعيد التموضع

رغم مرور أشهر على إعلان وقف إطلاق النار في نوفمبر الماضي، لم تُظهر إسرائيل أي التزام فعلي بوقف نشاطها العسكري داخل الأراضي اللبنانية. التقارير الميدانية تؤكد أن الجيش الإسرائيلي يواصل إقامة مواقع عسكرية جديدة في مناطق حدودية داخل العمق اللبناني، وهو ما تعتبره بيروت خرقًا واضحًا للسيادة الوطنية وتجاوزًا لكل التفاهمات الدولية.


إلى جانب ذلك، أصبحت الطائرات المسيّرة الإسرائيلية مشهدًا يوميًا في سماء الجنوب، إذ تجوب الأجواء على علو منخفض في بعض الأحيان، مثيرة حالة من القلق لدى السكان. هذه الطلعات ليست مجرد مراق
تل أبيب لا تزال تنظر إلى الجنوب باعتباره جبهة مفتوحة، وأن الحرب لم تُطوَ فعليًا بل جرى تعليقها فحسب.

 

جدل حول مصير بعثة اليونيفيل

مع اقتراب موعد انتهاء تفويض بعثة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) في الحادي والثلاثين من أغسطس الجاري، يتحوّل الجنوب اللبناني إلى محور نقاش محتدم داخل مجلس الأمن. فالمهمة التي تأسست عام 1978 عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان، والتي توسعت صلاحياتها بعد حرب يوليو 2006، تقف اليوم أمام اختبار سياسي وأمني معقّد: هل ستستمر بصيغة جديدة، أم أن ضغوط القوى الكبرى ستدفعها نحو تقليص صلاحياتها أو إعادة صياغة دورها بالكامل؟

فرنسا، التي تعدّ من أبرز المساهمين في القوة الدولية، تدفع بقوة نحو تمديد طويل الأمد يتيح للبعثة مواصلة مهامها من دون سقف زمني صارم. هذا الطرح الفرنسي يستند إلى قناعة بأن الاستقرار في جنوب لبنان هشّ بطبيعته، وأن أي فراغ دولي قد يفتح الباب أمام مواجهة مفتوحة بين إسرائيل وحزب الله. باريس ترى أن استمرار الانتشار الدولي يشكّل عامل ردع ولو بالحد الأدنى، وأن أي انسحاب أو تقليص قد يعرّض لبنان والمنطقة لتبعات كارثية.

 

في المقابل، تطرح الولايات المتحدة مقاربة مختلفة، تقوم على تمديد سنوي مشروط. واشنطن تعتبر أن كلفة البعثة باتت مرتفعة مقارنة بفعاليتها الميدانية، وتطالب بزيادة الدعم المالي والعسكري المباشر للجيش اللبناني كي يتمكن من الإمساك بزمام المبادرة على الأرض. بالنسبة للإدارة الأميركية، فإن استمرار الاعتماد على قوات أجنبية يرسّخ منطق "المسكنات الأمنية" بدل بناء مؤسسات لبنانية قادرة على فرض سيادتها.

 

هذا الجدل لا يقتصر على البعد التقني أو المالي، بل يعكس قلقًا أعمق لدى المجتمع الدولي من محدودية فعالية اليونيفيل في ردع الخروقات الإسرائيلية المتكررة وضبط نشاط حزب الله العسكري. فالبعثة، رغم انتشارها الواسع في الجنوب، لم تتمكن طوال السنوات الماضية من منع خرق الأجواء اللبنانية بطائرات الاستطلاع الإسرائيلية، ولم تستطع في الوقت نفسه الدخول في مواجهة مباشرة مع الحزب الذي يعتبر نفسه طرفًا "مقاومًا" خارج سلطة الدولة.

 

وبالتالي، فإن النقاش الدائر في مجلس الأمن يتجاوز الجانب الإجرائي لتمديد التفويض، ليصبح جزءًا من معركة النفوذ الدولي والإقليمي على الساحة اللبنانية: فرنسا تريد تثبيت حضورها كضامن للاستقرار، الولايات المتحدة تربط التمديد بجدية الدولة اللبنانية في تحمل مسؤولياتها، أما لبنان الرسمي فيجد نفسه محاصرًا بين هذه الضغوط وبين رفض حزب الله لأي خطوة يرى فيها تهديدًا لدوره العسكري والسياسي.

 

حزب الله يرفض خطط نزع السلاح

في موازاة الجدل الدولي حول مستقبل بعثة «اليونيفيل»، برزت مواقف داخلية أكثر حساسية، إذ أعلن نائب الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم رفضه القاطع لخطة الحكومة اللبنانية المدعومة أميركيًا، والرامية إلى نزع سلاح الحزب. قاسم اعتبر أن الخطة ليست سوى خدمة مجانية لإسرائيل، وذهب أبعد من ذلك حين وصفها بأنها تمهيد مباشر لعدوان جديد، هدفه إضعاف المقاومة وتجريد لبنان من قدرته على الردع.

 

هذا الرفض لم يكن مجرد موقف عابر، بل يمثل رسالة سياسية وأمنية مزدوجة: للحكومة اللبنانية بأن الحزب لن يتنازل عن سلاحه حتى تحت أقسى الضغوط، وللمجتمع الدولي بأن أي محاولة لفرض نزع السلاح ستُقرأ كخطوة في مسار التمهيد لحرب جديدة. الحزب يعيد التأكيد بذلك على أنه ليس مجرد فصيل محلي بل جزء من محور إقليمي أشمل، يمتد من طهران إلى دمشق وغزة، حيث يُنظر إلى السلاح باعتباره عنصرًا استراتيجيًا في مواجهة إسرائيل.

 

بالنسبة للدولة اللبنانية، فإن هذا الموقف يضعها أمام معضلة عميقة: فمن جهة، تتعرض لضغوط أميركية وأوروبية لإثبات قدرتها على فرض سيادتها واحتكار القوة المسلحة، وهو ما يُعد شرطًا أساسيًا لاستمرار الدعم المالي والدبلوماسي. ومن جهة أخرى، تواجه معارضة شرسة من الحزب الذي يتمتع بشبكة نفوذ سياسية واجتماعية واسعة، ويملك في الوقت نفسه القوة العسكرية الأكثر تنظيمًا وتسليحًا داخل البلاد.

 

النتيجة أن الحكومة تبدو عاجزة عن التوفيق بين هذين المسارين المتناقضين. فالمضي في خطة نزع السلاح دون توافق داخلي قد يقود إلى مواجهة مفتوحة مع الحزب، بما يحمل من مخاطر على السلم الأهلي. أما التراجع عنها فيعني فقدان ثقة المجتمع الدولي وتراجع الدعم المالي في مرحلة يمر فيها لبنان بأزمة اقتصادية خانقة.

 

من هنا، يتحول ملف سلاح حزب الله إلى عقدة مركزية في المعادلة اللبنانية: ليس فقط لأنه يهدد استقرار الداخل، بل لأنه أيضًا يرتبط مباشرة بمسار الصراع الإقليمي مع إسرائيل. وكلما تصاعدت الضغوط الدولية على بيروت، ازداد تمسك الحزب بخياراته، ليبقى السلاح في النهاية ورقة تفاوضية إقليمية ودولية أكثر منه ملفًا داخليًا بحتًا.

 

وساطة أميركية ومحاولة لتثبيت التهدئة

في خضم التصعيد الميداني والجدل السياسي، دخلت الولايات المتحدة على خط الأزمة عبر مبعوثها الخاص طوم باراك، الذي يجري منذ أسابيع جولات مكوكية بين بيروت وتل أبيب في محاولة للتوصل إلى وقف طويل الأمد لإطلاق النار يضمن استقرار الجنوب اللبناني. واشنطن ترى أن التهدئة القائمة منذ نوفمبر الماضي لا تكفي، وأن تثبيتها يحتاج إلى اتفاق سياسي شامل يتجاوز حدود وقف الأعمال العسكرية إلى معالجة الملفات الأمنية والسيادية.

باراك وصف إعلان الحكومة اللبنانية التزامها بخطة نزع سلاح الميليشيات بأنه "خطوة أولى حاسمة"، لكنه شدد في الوقت نفسه على أن نجاح أي مسار تفاوضي يتوقف على تجاوب الطرفين: حزب الله الذي يرفض التنازل عن سلاحه باعتباره أداة استراتيجية للردع، وإسرائيل التي تواصل تمسكها بوجودها العسكري داخل الأراضي اللبنانية وتعتبر أي انسحاب أو وقف للغارات الجوية تنازلًا غير مقبول.

 

الوساطة الأميركية تبدو في جوهرها محاولة لإدارة الأزمة أكثر من كونها مبادرة لحل جذري. فواشنطن تدرك أن الظروف الإقليمية، بما فيها التوتر مع إيران، تجعل من المستحيل عمليًا تفكيك البنية العسكرية لحزب الله في المدى المنظور. لذلك تركز على تثبيت التهدئة ومنع اندلاع حرب شاملة قد تمتد آثارها إلى جبهات أخرى في المنطقة.

لكن هذه الوساطة تواجه عقبات عدة:

من جانب حزب الله، الرفض القاطع لأي اتفاق يُنظر إليه كمساس بسلاح المقاومة، بل اعتباره خطوة لتهيئة الأرضية لعدوان إسرائيلي جديد.

 

من جانب إسرائيل، القلق من أن أي التزام بوقف الغارات أو الانسحاب من مواقع جديدة قد يُقرأ داخليًا كإضعاف لقدرتها الردعية، وهو ما ترفضه حكومة نتنياهو التي تواجه ضغوطًا داخلية.

 

من جانب لبنان الرسمي، الضعف المؤسسي والعجز عن فرض رؤية موحدة يجعل الدولة في موقع المتلقي أكثر من الفاعل، ما يحد من قدرتها على استثمار الوساطة لتحقيق مكاسب حقيقية.

 

في المحصلة، تبدو الوساطة الأميركية أشبه بمحاولة تجميد النزاع بدل حله. فهي تهدف إلى منع الانفجار لا إلى معالجة جذور المشكلة، ما يجعل أي اتفاق محتمل هشًا وقابلًا للانهيار عند أول مواجهة ميدانية أو حادث حدودي. ومع ذلك، يبقى هذا المسار هو الخيار الواقعي الوحيد أمام لبنان والمجتمع الدولي لتجنب حرب جديدة قد تكون أكثر تدميرًا من سابقتها.

 

المشهد الأمني
رغم الهدنة المعلنة في نوفمبر الماضي، يبقى الجنوب اللبناني ساحة مفتوحة على احتمالات التصعيد. فلا توجد ضمانات حقيقية تردع الخروقات الإسرائيلية اليومية، سواء عبر الطائرات المسيّرة التي تجوب الأجواء أو من خلال بناء مواقع عسكرية جديدة داخل الأراضي اللبنانية. هذه الممارسات تذكّر بأن وقف إطلاق النار ما هو إلا اتفاق هشّ، يمكن أن ينهار عند أول احتكاك ميداني أو عملية عسكرية غير محسوبة. لذلك، فإن احتمالية اندلاع مواجهة جديدة تظل قائمة بقوة، خصوصًا في ظل التوتر المستمر على الحدود.

 

المعادلة الداخلية
في الداخل، تواجه الدولة اللبنانية وضعًا معقدًا، فهي محاصرة بين مطرقة الضغوط الدولية التي تطالبها بإثبات قدرتها على فرض السيادة، وسندان حزب الله الذي يرفض أي مساس بسلاحه. هذه المعضلة لا تقف عند حدود الأمن، بل تمتد إلى السياسة، إذ تهدد بفتح صراع داخلي موازٍ بين مؤسسات الدولة والقوى الحزبية. ومع استمرار الانقسام، يصبح لبنان عاجزًا عن صياغة رؤية وطنية موحّدة، الأمر الذي يضعف موقفه التفاوضي أمام المجتمع الدولي ويجعل أي مبادرة دولية عرضة للتعثر.

 

البعد الإقليمي
لا يمكن فصل المشهد اللبناني عن الصراع الإقليمي الأكبر بين إسرائيل وإيران. استمرار الدور العسكري لحزب الله يجعل لبنان جزءًا من معادلة “محور المقاومة”، وبالتالي فإن أي تصعيد في الجنوب سرعان ما يتصل بساحات أخرى من غزة إلى طهران. إسرائيل من جانبها تنظر إلى الحزب باعتباره الذراع الأكثر فاعلية لإيران على حدودها الشمالية، وهو ما يدفعها إلى الحفاظ على سياسة الردع المستمر وعدم السماح بترسيخ معادلة استقرار طويل الأمد. وبذلك، يبقى لبنان عالقًا داخل شبكة صراع تتجاوز حدوده الوطنية.

 

الدور الدولي
أما على المستوى الدولي، فإن مصير بعثة اليونيفيل سيحدد مستقبل الاستقرار في الجنوب. فالقوة الدولية، رغم محدودية فعاليتها، تبقى عنصر توازن يردع الطرفين من الانزلاق السريع نحو مواجهة واسعة. أي تراجع في حضورها أو تقليص لصلاحياتها قد يترك فراغًا أمنيًا خطيرًا، ما يعجّل باندلاع مواجهة جديدة بين إسرائيل وحزب الله. ومع ذلك، فإن استمرار الجدل حول كلفة البعثة وفعاليتها يعكس هشاشة الإرادة الدولية في حماية لبنان، ويجعل مستقبل الاستقرار رهينة للقرارات السياسية في مجلس الأمن أكثر مما هو مرتبط بقدرات الدولة اللبنانية نفسها.

 

 

منذ تأسيس بعثة «اليونيفيل» عام 1978 عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان، شكّلت القوة الدولية مظلة هشّة للاستقرار في الجنوب. لكن الأحداث المتتالية – من حرب 2006 إلى حرب العام الماضي – كشفت أن مهامها تبقى محدودة أمام تشابك الميدان والسياسة. واليوم، مع اقتراب موعد الحسم في مجلس الأمن، يعود السؤال الجوهري إلى الواجهة: هل تستطيع اليونيفيل أن تحافظ على جنوب لبنان ساحة تهدئة مؤقتة، أم أن المنطقة تتجه نحو فصل جديد من الصراع؟ 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 10 + 2