شكّل سقوط النظام السوري السابق تحولًا جذريًا في البنية السياسية والقانونية للبلاد، حيث انكشفت آثار عقود من السياسات المجحفة التي طالت مختلف جوانب الحياة، وعلى رأسها قضايا الملكية والإرث. ومع بدء المرحلة الانتقالية، تبرز قضايا الإرث المنهوب كأحد أعقد التحديات القانونية والاجتماعية التي تواجه السوريين، خاصة في ظل سنوات من التهجير والنزوح والفراغ المؤسسي الذي رافق انهيار النظام السابق.
في سوريا ما بعد السقوط، لم تعد قضايا الإرث مجرّد خلافات أسرية، بل تحولت إلى صراعات قانونية ذات أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية، تعكس تركة نظام استخدم القوانين كسلاح للهيمنة ومصادرة الحقوق، وترك خلفه نظامًا عقاريًا مشوّشًا ومتداخلًا، يصعب فيه التحقق من الملكية أو إثبات الحق.
قوانين استثنائية أنتجت واقعًا معقّدًا
كان النظام السابق قد أرسى منظومة قانونية استخدمت التشريع كوسيلة لضبط المجتمع وقمع المعارضين، من خلال قوانين سلبت حق الملكية من آلاف المواطنين. من بين أبرز تلك القوانين ما أتاح نزع ملكيات خاصة تحت مسمّيات التطوير العمراني أو مكافحة الإرهاب أو اعتبارات أمنية، والتي شكّلت في مجملها أداة فعالة لمصادرة ممتلكات المعارضين والمهجّرين.
وقد أدّى هذا الواقع إلى تدهور منظومة التوثيق العقاري الرسمية، حيث تم اللجوء إلى وسائل غير قانونية لنقل الملكية، ما فتح الباب أمام عمليات احتيال واستيلاء، حتى ضمن العائلة الواحدة. وبفعل التهجير الطويل والظروف الأمنية، فُقدت الكثير من الوثائق، مما صعّب لاحقًا إجراءات إثبات الإرث والملكية أمام الجهات الرسمية.
مرحلة انتقالية وتجميد السجل العقاري
مع دخول سوريا مرحلة جديدة بعد زوال النظام، وجدت الحكومة الانتقالية نفسها أمام فوضى عقارية هائلة، تداخل فيها الحق القانوني مع ممارسات السلطة السابقة. لذلك، كان من أوائل الإجراءات التي اتُّخذت تجميد العمل بالسجل العقاري مؤقتًا، بهدف مراجعة شرعية العقود والتصرفات التي تمت في العقود الماضية، والتحقق من ملكية العقارات بشكل دقيق، ومنع محاولات الاستغلال خلال فترة الفراغ القانوني.
هذا التجميد شمل تعليق تسجيل جميع عقود البيع والشراء، ووقف تحديثات الملكية في المحافظات، مما عطّل جزءًا كبيرًا من معاملات حصر الإرث وتوزيع الحصص بين الورثة، خاصة في الحالات التي تطلبت إثبات الملكية أو الحصول على وثائق براءة ذمة من الجهات المعنية، وهي وثائق توقّف إصدارها خلال فترة المراجعة.
الإرث: نزاعات مؤجلة وتوزيع معطّل
بعد سنوات من النزوح، بدأت كثير من العائلات السورية العودة تدريجيًا إلى مناطقها، لتكتشف أن ممتلكاتها لم تعد بحوزتها، أو أنها نُقلت باسماء أخرى بطريقة غير قانونية. وفي حالات أخرى، ظهرت خلافات داخل الأسر حول ملكيات لم تُقسّم بسبب غياب أحد الورثة، أو عدم القدرة على إثبات وفاة أفراد خلال الحرب، أو فقدان الوثائق الرسمية.
نتيجة لهذا الواقع، باتت قضايا الإرث واحدة من أكثر الملفات القانونية تعقيدًا، إذ إن النزاع لا يدور فقط حول أحقية الورثة، بل أيضًا حول ملكية العقار نفسه، وصحة الوثائق التي تُبنى عليها الأحكام. ورغم الجهود القانونية المبذولة، فإن البتّ في مثل هذه القضايا ما يزال يواجه عراقيل كبيرة، بفعل تراكم الطلبات، ونقص الكوادر، وازدحام المحاكم.
العدالة البديلة وسدّ الفراغ القضائي
في ظل شلل الجهاز القضائي لفترات طويلة، ظهرت مبادرات مجتمعية لمحاولة تسوية النزاعات، من خلال تشكيل لجان أهلية في العديد من المناطق. وقد تولت هذه اللجان أدوارًا فاعلة في حل خلافات الإرث وتقسيم التركات بطرق ودية، مستندة إلى الأعراف المحلية والتوافق بين الأطراف، رغم أن قراراتها غير ملزمة قانونيًا.
كما لجأت بعض العائلات إلى حل الخلافات بشكل عائلي من خلال اتفاقات شفهية أو تقسيم غير موثّق للتركات، تفاديًا للتقاضي. ورغم نوايا الحفاظ على التماسك الأسري، إلا أن غياب التوثيق الرسمي يُبقي هذه التفاهمات عرضة للطعن، وقد يؤدي لاحقًا إلى نشوء نزاعات أكبر.
طريق طويل نحو العدالة العقارية
يُظهر ملف الإرث في سوريا أن الطريق نحو العدالة ما يزال طويلًا ومعقدًا، حيث تتقاطع فيه آثار ممارسات النظام السابق مع ثغرات المرحلة الانتقالية، إلى جانب التحديات الاجتماعية والثقافية المتجذرة. ورغم وجود بوادر إصلاح، مثل إلغاء قرارات الحجز السياسي ومراجعة السجلات العقارية، فإن الواقع ما يزال يفتقر إلى آليات تنفيذية متكاملة تضمن استعادة الحقوق، وتحقيق الإنصاف لكافة الأطراف، نساءً ورجالًا، في ملف لا يحتمل التأجيل.
ختامًا، يبقى تنظيم الإرث وإعادة ضبط النظام العقاري ركيزة أساسية لأي مشروع إعادة بناء حقيقي، ليس فقط من الناحية الاقتصادية، بل كمدخل أساسي لتحقيق العدالة الانتقالية وتعزيز السلم الأهلي في مجتمع منهك بالحروب والانقسامات.