أثار الإعلان عن صفقة الغاز الكبرى بين مصر وإسرائيل، والمقدّرة قيمتها بـ 35 مليار دولار حتى عام 2040، عاصفة من الجدل الشعبي والسياسي في مصر والعالم العربي. وجاء توقيع الاتفاقية في 7 أغسطس الجاري وسط ظرف إقليمي بالغ التعقيد، حيث تخوض إسرائيل حربًا مدمرة على قطاع غزة وتسيطر على معبر رفح و"ممر فيلادلفيا" الحدودي مع مصر، ما جعل الصفقة تبدو في أعين كثيرين كجزء من مشهد إقليمي يعيد رسم موازين القوة.
الأرقام تؤكد أن إسرائيل ستصدّر لمصر 130 مليار متر مكعب من الغاز من حقل "ليفياثان" بدءًا من 2026 وحتى 2040، بعد أن زوّدتها حتى الآن بـ 23.5 مليار متر مكعب.
الرواية الإسرائيلية: نفوذ استراتيجي وصعود إقليمي
وسائل الإعلام العبرية قدّمت الاتفاق كـ نصر سياسي واقتصادي لإسرائيل.
مجلة "إيبوك" الاقتصادية الإسرائيلية وصفت الاتفاق بأنه صفقة تاريخية تعزز مكانة إسرائيل الإقليمية في وقت تتراجع فيه مكانتها الدولية بفعل الحرب على غزة واعتراف عدة دول بدولة فلسطينية. وبحسب التقرير، فإن الاتفاقية تمنح إسرائيل نفوذًا استراتيجيًا متزايدًا على مصر والأردن، وتجعلها مركزًا إقليميًا للطاقة.
أما صحيفة "معاريف" فقد ذهبت أبعد من ذلك، معتبرة أن إسرائيل استطاعت عبر هذه الصفقة أن "تهزم قوتين عربيتين عظميين – مصر والأردن – دون إطلاق رصاصة واحدة"، مشيرة إلى أن الغاز الإسرائيلي بات ضرورة لتشغيل محطات الكهرباء المصرية ولتغطية العجز المتفاقم في إنتاج الغاز، بعد تراجع إنتاج مصر بنسبة 42% خلال خمس سنوات.
الموقف الرسمي المصري: "صفقة تجارية بحتة"
في المقابل، أكدت مصادر رسمية في وزارة الطاقة والبترول المصرية، بالإضافة إلى وزير بترول سابق، أن الاتفاقية ذات طبيعة تجارية وليست سياسية، وأنها تُمكّن مصر من تعويض نقص الطاقة عبر استيراد غاز أقرب جغرافيًا وأقل تكلفة من بدائل أخرى. كما شددت القاهرة على أن هذه الخطوة تدعم طموحها في أن تصبح مركزًا إقليميًا لتجارة الغاز، عبر استخدام البنية التحتية القائمة وتوفير مليارات الدولارات مقارنة بخيارات استيراد الغاز المسال.
الداخل المصري: معارضة وانتقادات شعبية
في الداخل المصري، لم تمر الصفقة دون اعتراضات:
معارضون اعتبروا أن الاتفاقية تُكرّس تبعية اقتصادية لإسرائيل في وقت تتصاعد فيه الجرائم بحق الفلسطينيين في غزة.
بعض الأصوات وصفتها بأنها "تطبيع مقنّع" يتعارض مع المزاج الشعبي المصري الرافض لأي تقارب مع تل أبيب.
في وسائل التواصل الاجتماعي، برز وسم "لا للغاز الإسرائيلي" ضمن النقاشات، حيث رأى ناشطون أن الصفقة تمثل "بيعًا للقرار المصري مقابل الحاجة إلى الطاقة".
أحزاب وحركات سياسية معارضة شددت على أن الأمن القومي المصري يجب أن يُحصّن عبر تنويع مصادر الطاقة، لا عبر الاعتماد على خصم إقليمي.
تفاصيل الصفقة: أرقام واستحقاقات
تنص الاتفاقية الجديدة على أن تقوم إسرائيل بتصدير ما يقارب 130 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي من حقل "ليفياثان" البحري، وذلك ابتداءً من عام 2026 وحتى عام 2040. وتبلغ قيمة الصفقة الإجمالية نحو 35 مليار دولار، ما يجعلها واحدة من أضخم العقود الطاقوية بين الجانبين.
وتأتي هذه الخطوة امتدادًا لاتفاقية سابقة وُقعت عام 2020، والتي نصت على تصدير 60 مليار متر مكعب من الغاز إلى مصر على مدى عشر سنوات تنتهي في 2030. ومنذ بدء تنفيذ تلك الاتفاقية، تمكنت إسرائيل حتى الآن من تزويد مصر بما يقارب 23.5 مليار متر مكعب من الغاز، رغم توقف الإنتاج لفترة وجيزة خلال الحرب التي اندلعت بينها وبين إيران واستمرت 12 يومًا.
اللافت أن عملية نقل الغاز الإسرائيلي تتم عبر شبكة أنابيب برية تمر من النقب وصولًا إلى الأراضي المصرية، وهي طريقة أوفر بكثير مقارنة بخيار استيراد الغاز المسال عبر السفن. ووفق تقديرات شركات الطاقة، فإن هذا المسار يوفر على القاهرة مليارات الدولارات سنويًا، ويمنحها مرونة أكبر في إدارة أزمة نقص الطاقة.
انعكاسات اقتصادية وإقليمية
الصحافة العبرية اعتبرت أن اعتماد مصر على الغاز الإسرائيلي يرسخ تبعيتها الاقتصادية ويجعلها في موقع ضعيف إزاء إسرائيل. وبحسب "معاريف"، فإن إسرائيل تغطي الآن ما بين 15% – 20% من استهلاك الغاز المصري، بينما يعتمد الأردن بشكل شبه كامل على الغاز والمياه من إسرائيل.
أما موقع "ناتسف نت" الإسرائيلي فقد ذهب إلى حد القول إن "الاقتصاد المصري لا يزال حيًا بفضل صفقة الغاز حتى عام 2040"، في إشارة إلى الأثر العميق لهذه الاتفاقية على الموازنة العامة والقدرة الإنتاجية للطاقة في مصر.
من مصدر للطاقة إلى مستورد
تاريخيًا، كانت مصر تصدّر النفط والغاز لإسرائيل عبر خط أنابيب في سيناء، إلا أن تراجع احتياطاتها وإنتاجها خلال السنوات الأخيرة أجبرها على استيراد الغاز من الحقول البحرية الإسرائيلية. المفارقة التي أبرزها الإعلام العبري هي أن القاهرة التي كانت يومًا ما مصدّرًا، باتت اليوم مستوردًا رئيسيًا للغاز من إسرائيل، في وقت يشهد الإقليم صراعًا مفتوحًا بين تل أبيب والفصائل الفلسطينية في غزة.
تاريخ العلاقة الطاقوية بين القاهرة وتل أبيب يكشف مسارًا متناقضًا:
في العقد الأول من الألفية، كانت مصر تصدّر الغاز لإسرائيل عبر خط أنابيب سيناء.
لكن الهجمات المتكررة على الخط في أعقاب ثورة يناير 2011، والجدل الشعبي حول "بيع الغاز لإسرائيل بأسعار زهيدة"، أدت إلى إلغاء الاتفاقية في 2012.
عام 2018، وقّعت القاهرة اتفاقًا مع شركة "ديليك" الإسرائيلية وشريكتها الأمريكية "نوبل إنرجي" لتوريد الغاز من حقل "تمار" و"ليفياثان"، بقيمة 15 مليار دولار.
في يناير 2020، بدأ ضخ الغاز الإسرائيلي إلى مصر بموجب اتفاقية مدتها 10 سنوات لتصدير 60 مليار متر مكعب.
واليوم، مع الصفقة الجديدة حتى 2040، تتحول إسرائيل إلى مزود رئيسي للغاز لمصر بدلًا من العكس.
تعكس صفقة الغاز الأخيرة بين مصر وإسرائيل مزيجًا من التعقيد الاقتصادي والسياسي؛ فهي من جهة توفر لمصر حلاً عاجلاً لأزمة الطاقة وتدعم طموحها كمركز إقليمي للغاز، لكنها من جهة أخرى تمنح إسرائيل نفوذًا استراتيجيًا غير مسبوق على مصر والأردن، وتُقدَّم في الإعلام العبري كـ"انتصار سياسي واقتصادي" في لحظة إقليمية حرجة.
الجدل الدائر في مصر والعالم العربي لا يتعلق بالغاز وحده، بل بما يرمز إليه من تحولات في موازين القوة الإقليمية، حيث تُستخدم الطاقة كسلاح نفوذ لا يقل أهمية عن السلاح العسكري.
صفقة الغاز المصرية – الإسرائيلية الأخيرة ليست مجرد عقد تجاري؛ بل هي انعكاس لتوازنات قوة جديدة في المنطقة. القاهرة تراها حلًا عمليًا لأزمة الطاقة، بينما تراها إسرائيل انتصارًا استراتيجيًا يعزز نفوذها على أكبر دولة عربية من حيث عدد السكان.
وبينما تستمر الحرب في غزة ويزداد الاحتقان الشعبي ضد إسرائيل، تبقى هذه الصفقة مرشحة لأن تتحول إلى قضية سياسية ساخنة داخل مصر، بما يتجاوز حدود الغاز إلى أسئلة السيادة والهوية ودور القاهرة الإقليمي.
وبينما تصر الحكومة المصرية على الطابع الاقتصادي البحت للاتفاقية، يربط مراقبون بين الصفقة وبين المعادلات السياسية الإقليمية:
إسرائيل تسوّق نجاحها في "إخضاع" مصر والأردن عبر الطاقة.
واشنطن تدعم هذه الصفقات كجزء من استراتيجية إقليمية لدمج إسرائيل اقتصاديًا في المنطقة.
في المقابل، يزداد الضغط الشعبي على القاهرة لوقف أي تقارب اقتصادي مع تل أبيب في ظل استمرار حرب غزة.