لقاء باريس: دمشق وتل أبيب بين الضغط والدبلوماسية

وكالة أنباء آسيا

2025.08.20 - 10:17
Facebook Share
طباعة

في خطوة وُصفت بأنها غير مسبوقة منذ عقود، ظهر وزير الخارجية السوري أسعد الحسن الشيباني في لقاء مباشر مع وفد إسرائيلي بالعاصمة الفرنسية باريس، تحت رعاية أميركية، في مشهد بدا وكأنه محاولة استباقية لاحتواء الانفجار على الحدود السورية – الإسرائيلية، وإعادة تدوير اتفاقية فض الاشتباك الموقعة عام 1974. اللقاء لم تُعلن تفاصيله كاملة، فيما اختارت دمشق أن تُضفي عليه غموضًا مقصودًا، مكتفية بالحديث عن «خفض التصعيد» وضرورة العودة إلى الالتزام بالخطوط الفاصلة، بينما فضّلت تل أبيب الصمت ولم تُصدر تأكيدًا رسميًا، في حين تسربت رواية أميركية وصفت الأمر بأنه «خطوة أولى» على طريق شرق أوسط أكثر استقرارًا.

هذا اللقاء الذي عُقد في باريس لا يمكن عزله عن المشهد الميداني المشتعل جنوب سوريا، وتحديدًا في محافظة السويداء، حيث انفجر الغضب الشعبي والاحتقان الطائفي على نحو غير مسبوق. فالمدينة التي ظلت لعقود بعيدة عن خطوط النار المباشرة تحولت في الأشهر الأخيرة إلى ساحة مواجهة مفتوحة بين مجموعات درزية محلية وقوات حكومية مدعومة بميليشيات بدوية، في ظل توثيق انتهاكات قاسية بحق المدنيين، من بينها حوادث هزّت الرأي العام ودفعت ببعض المتظاهرين إلى رفع الأعلام الإسرائيلية في قلب المدينة. هذا التطور الاستثنائي شكّل مادة ضغط إضافية على دمشق وتل أبيب معًا، وفتح الباب أمام وساطة أميركية عاجلة استثمرت فيها باريس باعتبارها مساحة آمنة لمثل هذه اللقاءات.

من جهة دمشق، يبدو أن السلطة الجديدة التي خلفت نظام بشار الأسد تحاول شراء الوقت وإعادة ترتيب أوراقها. فالانتقال السياسي الهش يفرض على القيادة السورية معادلة صعبة: كيف تُمسك بزمام الداخل المترنح وفي الوقت ذاته تمنع انفلات الجبهة الجنوبية. أي تهدئة ولو محدودة على خط الجولان تمثل بالنسبة لها «جرعة أوكسجين» سياسية وأمنية، تسمح بتحويل الجهد نحو معالجة التوترات الداخلية، خصوصًا في السويداء التي تحولت إلى صداع دائم يهدد بفكفكة ما تبقى من تماسك الدولة.

أما إسرائيل، فإن أولوياتها تختلف تمامًا. فهي لا تبحث عن سلام سياسي مع دمشق، بقدر ما تريد ضمان «عازلة آمنة» جنوب سوريا تمنع أي تموضع عسكري معادٍ على مقربة من حدودها. لهذا كثّفت في الأسابيع الأخيرة من غاراتها الجوية التي لم تقتصر على أرتال قرب السويداء، بل وصلت إلى أهداف حساسة في قلب دمشق بينها محيط وزارة الدفاع. تل أبيب تقدم نفسها كحامية للأقلية الدرزية، وتوظف خطاب «المظلومية» في السويداء كورقة ضغط على الأميركيين والأوروبيين، وفي الوقت ذاته كأداة تبرير للتدخل العسكري المستمر.

الولايات المتحدة من جانبها تنظر إلى الملف من زاوية براغماتية بحتة. فإدارة ترامب التي وجدت نفسها أمام برميل بارود في الجنوب السوري، رأت أن إعادة إحياء اتفاق فضّ الاشتباك لعام 1974 هو «الخيار الأدنى كلفة والأكثر سرعة»، فهو اتفاق جاهز، معترف به دوليًا، ويمكن توظيفه كإطار لاحتواء الاشتباكات من دون الحاجة إلى هندسة تسوية سياسية شاملة. وبذلك تظهر واشنطن بمظهر الطرف القادر على إدارة الأزمات في المنطقة بوسائل دبلوماسية سريعة، ومن دون التورط في التزامات عسكرية ثقيلة.

لكن اللقاء في باريس لا يعكس بالضرورة بداية مسار تطبيعي أو سلام دائم، بقدر ما يمكن وصفه بمحاولة «إطفاء حريق» على الجبهة الجنوبية. فالمشهد في السويداء تحديدًا ما زال هشًا للغاية. الهدنة التي فُرضت هناك بوساطة أميركية – تركية – عربية لم تُنهِ حالة الحصار أو الهواجس الأمنية، ولا تزال المطالب الدرزية بفتح ممرات إنسانية وإطلاق سراح المختطفين قائمة، فيما تصر دمشق على التذرع بـ«التحقيقات» من دون خطوات عملية واضحة. أي خطأ أمني جديد أو حادثة دامية قد يشعل الموقف من جديد ويفتح الباب أمام تصعيد إسرائيلي واسع ينسف كل ما جرى ترتيبه في باريس.

في المقابل، ثمة مكاسب مرحلية يمكن للطرفين استثمارها. بالنسبة لسوريا، فإن تثبيت وقف الاحتكاك الحدودي يخفف الضغط عنها ويمنحها فرصة لإعادة ترتيب بيتها الداخلي. أما إسرائيل، فإن ضمان التزام دمشق بالخطوط الفاصلة يتيح لها الاستمرار في استراتيجيتها العسكرية من دون الخوف من انزلاق إلى حرب مفتوحة. بينما واشنطن تكسب ورقة دبلوماسية تضيفها إلى رصيدها في المنطقة وتُظهرها بمظهر الضامن للاستقرار.

غير أن العقبات كثيرة. أولها غياب الاعتراف الإسرائيلي العلني باللقاء، ما يجعل المسار هشًا وقابلًا للانهيار عند أول أزمة. ثانيها تعدد مراكز القوة داخل سوريا، حيث لا يملك المركز السيطرة الكاملة على التشكيلات المسلحة والعشائرية، ما يهدد أي التزامات ميدانية. ثالثها الحساسية الدينية – الطائفية المرتبطة بالملف الدرزي، والتي تجعل من السويداء نقطة ارتكاز يمكن أن تُستخدم داخليًا في إسرائيل وخارجيًا في دمشق لتبرير أي تصعيد. يضاف إلى ذلك العقدة التاريخية المتمثلة في وضع الجولان، الذي ضمته إسرائيل ورفض المجتمع الدولي الاعتراف به باستثناء واشنطن، ما يضع سقفًا سياسيًا منخفضًا لأي مسار تفاوضي.

هكذا يتضح أن لقاء باريس هو أشبه بمحاولة لتثبيت «جدار عازل» يمنع تمدد الفوضى السورية جنوبًا أكثر منه انطلاقة لمسار سلام. هو لقاء لإدارة المخاطر لا لحل النزاع. واشنطن تراهن على خفض التوتر بأقل كلفة، إسرائيل تريد ضمان أمنها من دون تنازلات سياسية، ودمشق تسعى لالتقاط أنفاسها داخليًا. ومع ذلك، يبقى نجاح هذا المسار مشروطًا بثلاثة عناصر: التزام ناري صارم على خط الجولان وتحديث آليات المراقبة، معالجة جذرية لاحتقان السويداء بما في ذلك المحاسبة والإنفاذ القانوني، وأخيرًا توفير غطاء إقليمي وأممي مرن يسمح بتمرير تفاهمات أمنية من دون فرض أثقال سياسية غير ممكنة حاليًا.

بين 1974 و2025، يبدو أن التاريخ يُعاد تدويره: من اتفاق فض اشتباك صمد نصف قرن إلى لقاءات في عواصم أوروبية لإحياءه. لكن الفارق أن سوريا اليوم ليست هي سوريا الأمس، وأن إسرائيل تجد نفسها أمام جبهة جنوبية متقلبة لا يكفيها جدار عسكري لحمايتها، وأن واشنطن تحاول الإمساك بالخيوط وسط فوضى لا أحد يعرف إلى أين تنتهي.

ترتبط التطورات الجارية في الجنوب السوري باتفاق «فضّ الاشتباك» الذي وُقِّع عام 1974 بين سوريا وإسرائيل بوساطة أمريكية، عقب حرب تشرين/أكتوبر 1973. هذا الاتفاق رسم خريطة خطوط التماس في الجولان المحتل، وأنشأ منطقة فصل تشرف عليها قوات «الأندوف» التابعة للأمم المتحدة، في محاولة لمنع عودة المواجهات المباشرة. وعلى مدار العقود التالية، ظلّ الاتفاق صامدًا رغم التوترات المتقطعة والضربات الإسرائيلية المتكررة داخل الأراضي السورية، خصوصًا بعد اندلاع الحرب عام 2011، حيث تحوّل الجنوب السوري إلى مسرح مفتوح للتدخلات الإقليمية والدولية.

كما يبرز في هذا السياق موقع محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية، التي شكّلت على الدوام نقطة حساسة في الحسابات السورية والإسرائيلية معًا. فالدروز الذين يتمركزون في السويداء يتمتعون بروابط عائلية وتاريخية مع دروز فلسطين والجولان المحتل، ما يجعلهم ورقة ضغط سياسية وأمنية قابلة للاستثمار في لحظات التصعيد. وعلى الرغم من أن السويداء بقيت بمعزل نسبيًا عن الحرب السورية في سنواتها الأولى، فإنها تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى ساحة احتجاجات داخلية، ما ضاعف أهميتها في ميزان القوى الإقليمي.

وتاريخيًا، دأبت إسرائيل على استخدام الملف السوري كورقة مساومة في علاقاتها مع الولايات المتحدة وروسيا، معتبرةً أن أي تفاهمات تخصّ مستقبل دمشق أو الجنوب السوري يجب أن تراعي هواجسها الأمنية أولاً، ولا سيما ما يتعلق بالوجود الإيراني وحزب الله. ومن هنا، فإن استدعاء واشنطن لاتفاق فضّ الاشتباك اليوم لا يعكس فقط القلق من احتمالات التمدد الإيراني أو اندلاع مواجهة جديدة، بل يذكّر أيضًا بمحاولات متكررة لإعادة تدوير أوراق قديمة في لحظة إقليمية شديدة التعقيد. 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 4 + 4