منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، تتوالى المبادرات الدبلوماسية لمحاولة كسر الجمود العسكري والسياسي. لكن التطورات الأخيرة تشير إلى دخول الملف مرحلة جديدة، مع عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى واجهة الوساطة، وانعقاد قمة ألاسكا بينه وبين نظيره الروسي فلاديمير بوتين، ثم لقاء الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالقادة الأوروبيين أمس الاثنين. هذه التحركات تفتح الباب أمام تساؤلات جوهرية حول فرص تحقيق تسوية، وحدود قدرة الأطراف الدولية على فرض اتفاق مستدام.
قمة ألاسكا: رسالة رمزية وإعادة تموضع روسي
لقاء بوتين وترامب في ألاسكا لم يكن مجرد اجتماع بروتوكولي، بل حمل دلالات استراتيجية مهمة. القمة أعطت موسكو اعترافًا ضمنيًا بقدرتها على فرض نفسها طرفًا رئيسيًا في أي معادلة للحل، بعد سنوات من العقوبات والعزلة الغربية. بوتين استثمر اللقاء لإظهار أن روسيا لا تزال لاعبًا محوريًا قادرًا على التفاوض المباشر مع واشنطن، بينما حرص ترامب على تقديم نفسه كزعيم عالمي قادر على إدارة الملفات المعقدة وصناعة الصفقات التاريخية. هذه المعادلة منحت الطرفين مكاسب سياسية، لكنها أيضًا رفعت سقف التوقعات بشأن إمكانية الانتقال إلى مفاوضات أكثر جدية بين موسكو وكييف.
لقاء كييف: اختبار الإرادة الأوروبية
في موازاة قمة ألاسكا، استضافت واشنطن أمس الاثنين لقاء جمع زيلينسكي بعدد من القادة الأوروبيين، بينهم المستشار الألماني أولاف شولتس والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. اللقاء أكد التزام أوروبا بدعم أوكرانيا عسكريًا واقتصاديًا، مع وعود بتمويل يتجاوز 90 مليار دولار، إضافة إلى برامج لتطوير الدفاعات الجوية ونشر بعثات مراقبة دولية على الحدود. غير أن القمة أظهرت أيضًا وجود تباينات أوروبية واضحة، إذ يتبنى جناح داخل الاتحاد الأوروبي رؤية أكثر براغماتية تدعو إلى تقليل التورط العسكري المباشر، في مقابل دول أخرى ترى أن أي تراجع الآن قد يمنح روسيا تفوقًا استراتيجيًا طويل الأمد.
زيلينسكي بين الضغوط والتشبث بالسيادة
خرج زيلينسكي من لقاء كييف بموقف معلن واضح: لا تنازل عن الأراضي الأوكرانية، ولا اعتراف بضم القرم أو المناطق التي سيطرت عليها موسكو. لكنه في الوقت ذاته أبدى مرونة محسوبة، ملوحًا باستعداده للحوار المباشر مع بوتين إذا جرى ضمن إطار دولي يضمن التزامات مكتوبة من الولايات المتحدة وأوروبا. هذه الموازنة تعكس مأزق القيادة الأوكرانية؛ فهي تحتاج إلى الدعم الغربي للبقاء، لكنها تخشى من أن يتحول هذا الدعم إلى ضغوط لانتزاع تنازلات إقليمية تُضعف شرعية النظام داخليًا وتفجّر الانقسام في الشارع الأوكراني.
ترامب: عودة «صانع الصفقات»
ترامب، الذي يسعى لتثبيت صورته كقائد عالمي قادر على إنهاء الحروب، قدم نفسه كوسيط رئيسي بين بوتين وزيلينسكي. تصريحاته الأخيرة أوحت برغبة في وقف النزاع سريعًا حتى لو عبر تجميد خطوط التماس الحالية. هذا الطرح قد يرضي موسكو التي ترغب في تثبيت مكاسبها الميدانية، لكنه يثير مخاوف كييف من فقدان أراضٍ استراتيجية دون استعادة. كما يضع أوروبا في موقف حساس، بين رغبتها في دعم أوكرانيا وعدم استعدادها لتحمل حرب مفتوحة إلى أجل غير مسمى. دخول ترامب بهذا الشكل يعكس رغبة أمريكية في استعادة زمام المبادرة، لكنه يثير تساؤلات عن مدى استعداده لتقديم ضمانات طويلة المدى تتجاوز منطق الصفقات اللحظية.
من مينسك إلى إسطنبول
عند تقييم المسار الجديد، من الضروري استحضار محطات سابقة. اتفاقيات مينسك عام 2014 و2015 شكلت أول محاولة جادة لوقف النار، لكنها انهارت بسبب غياب آليات التنفيذ وانعدام الثقة المتبادل. ثم جاءت مفاوضات إسطنبول عام 2022 بعد أسابيع من اندلاع الحرب، وأظهرت بوادر لتسوية جزئية، لكن الانقسامات داخل الناتو والضغوط الميدانية أطاحت بها سريعًا. هذه التجارب تبرز درسًا أساسيًا: أي اتفاق لا يستند إلى ضمانات أمنية واضحة وتوازن سياسي صلب سيكون عرضة للانهيار.
فرص وتحديات
اللحظة الراهنة تكشف عن توازن معقد. بوتين يدخل المفاوضات بزخم إضافي بعد قمة ألاسكا، محاولًا تكريس نفسه شريكًا لا غنى عنه في الأمن الدولي. زيلينسكي يتمسك بالسيادة الوطنية لكنه يدرك أن قدرته على الصمود مرهونة بالدعم الغربي. الأوروبيون يحاولون لعب دور الضامن لكنهم يعانون من انقسامات داخلية وتخوفات اقتصادية. أما ترامب، فيطرح نفسه كعراب محتمل لاتفاق سلام، لكن خطابه المائل للصفقات يثير القلق من أن يكون الحل المقترح هشًا وقابلًا للانفجار في أي لحظة.
تبدو الحرب الأوكرانية اليوم عند مفترق طرق جديد. قمة ألاسكا منحت بوتين فرصة لإعادة التموضع، وقمة كييف عززت ثقل الدور الأوروبي، فيما يحاول ترامب استغلال اللحظة لتسجيل اختراق تاريخي. لكن الطريق نحو سلام مستدام يظل محفوفًا بالعقبات: هل تقبل موسكو بضمانات أمنية دون مكاسب إقليمية؟ هل تستطيع كييف حماية سيادتها وسط الضغوط الغربية؟ وهل يترجم الغرب وعوده إلى التزامات طويلة المدى؟
منذ انهيار اتفاقيات مينسك إلى فشل مسار إسطنبول، يتضح أن غياب الثقة المتبادلة يظل العائق الأكبر أمام أي تسوية. لذا فإن نجاح ترامب أو أي وسيط آخر سيعتمد على قدرته في توفير ضمانات أمنية وسياسية متوازنة، تُرضي الأطراف الثلاثة: موسكو، كييف، والعواصم الغربية. وحتى يتحقق ذلك، ستظل أوكرانيا ساحة اختبار حقيقية لإرادة المجتمع الدولي في صنع سلام عادل ومستقر.
من تفكك الاتحاد السوفيتي إلى حرب أوكرانيا
1991: نهاية الاتحاد السوفيتي وبداية فراغ القوة
مع انهيار الاتحاد السوفيتي في ديسمبر 1991، وجدت روسيا نفسها وريثة إمبراطورية مترامية الأطراف لكنها ضعيفة اقتصاديًا وعسكريًا. في المقابل، تبنى الغرب بقيادة الولايات المتحدة تصورًا بأن مرحلة ما بعد الحرب الباردة هي عصر أحادي القطبية، يمكن فيه توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقًا دون اعتبار كبير للهواجس الأمنية الروسية.
تسعينيات مضطربة: يلتسين والاعتماد على الغرب
خلال عهد بوريس يلتسين (1991-1999)، انغمست روسيا في أزمة اقتصادية حادة واعتمدت على المساعدات الغربية، بينما بدأ الناتو موجات التوسع الأولى بانضمام بولندا والمجر وتشيكيا عام 1999. موسكو رأت ذلك خيانة لوعود غير مكتوبة بعدم تمدد الحلف شرقًا عقب توحيد ألمانيا. هذه اللحظة كانت البذرة الأولى لفقدان الثقة.
2000 – 2008: بوتين وصعود خطاب "استعادة الهيبة"
بوصول فلاديمير بوتين إلى السلطة عام 2000، تبنت روسيا سياسة أكثر صرامة. أحداث 11 سبتمبر 2001 منحتها فرصة للتعاون مع واشنطن ضد "الإرهاب"، لكن سرعان ما عاد التوتر مع غزو العراق عام 2003 وتوسيع الناتو ليشمل دول البلطيق (إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا) عام 2004.
الذروة جاءت في قمة بوخارست 2008 حين أعلن الناتو أن أوكرانيا وجورجيا "ستصبحان عضوين في المستقبل"، ما اعتبرته موسكو تهديدًا مباشرًا. لم تمض أشهر حتى خاضت روسيا حربها الخاطفة ضد جورجيا في أغسطس 2008.
2014: أزمة القرم والانفجار الكبير
في فبراير 2014، أطاحت احتجاجات "الميدان الأوروبي" بالرئيس الأوكراني الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش. ردت موسكو سريعًا بضم شبه جزيرة القرم، ودعمت حركات انفصالية في دونيتسك ولوغانسك شرق أوكرانيا. الغرب رد بعقوبات اقتصادية وعسكرية، وبدأت حقبة جديدة من المواجهة بين روسيا والغرب، وصفت أحيانًا بـ"الحرب الباردة الثانية".
2014 – 2021: استنزاف متبادل واتفاقيات هشة
خلال هذه الفترة، حاولت اتفاقيات مينسك (2014 و2015) احتواء النزاع في شرق أوكرانيا، لكنها فشلت بسبب خلافات حول الحكم الذاتي للأقاليم الانفصالية ودور كييف. في الوقت نفسه، عزز الناتو وجوده في شرق أوروبا، فيما أعادت موسكو بناء جيشها وتوسيع نفوذها في سوريا وليبيا.
2022: الغزو الروسي لأوكرانيا
في 24 فبراير 2022، شنت روسيا غزوًا واسعًا لأوكرانيا، معلنة أن الهدف هو "نزع السلاح" و"منع انضمامها إلى الناتو". الغرب رد بعقوبات غير مسبوقة ودعم عسكري مباشر لكييف. هذه الحرب شكّلت ذروة الصدام الممتد منذ ثلاثة عقود، حيث تحولت المواجهة من لعبة شد وجذب إلى صراع مفتوح على مستقبل النظام الدولي.