أثار إعلان وزارة الخارجية الإسرائيلية عن تقديم مساعدات إنسانية عاجلة إلى جنوب السودان جدلاً واسعاً في الأوساط الإقليمية والدولية، خصوصاً أنه جاء متزامناً مع تقارير تحدثت عن محادثات سرية بين تل أبيب وجوبا حول إمكانية استيعاب لاجئين من قطاع غزة وبينما نفت حكومة جنوب السودان تلك المزاعم بشكل قاطع، فإن الخلفية التاريخية للعلاقات بين الطرفين والظروف السياسية الراهنة تجعل من الصعب فصل البعد الإنساني عن الأجندة السياسية في هذه الخطوة.
المساعدات الإسرائيلية في سياق إنساني معلن:
أعلنت تل أبيب أن حزمة المساعدات ستشمل أدوية لعلاج الكوليرا، ومعدات لتنقية المياه، وأدوات وقاية شخصية، إلى جانب طرود غذائية وقدمت الخارجية الإسرائيلية هذا التحرك في إطار دعم جوبا التي تواجه أزمة إنسانية متفاقمة نتيجة انتشار الأوبئة ونقص الموارد، إضافة إلى تدفق اللاجئين من السودان الشمالي بسبب الحرب المستمرة هناك كما أشار وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر إلى أن التنسيق مع نظيره الجنوبي موندي سيمايا كومبا يعكس "التزام إسرائيل بدعم الاستقرار الإقليمي".
نفي جوبا لمحادثات التوطين:
غير أن هذه المساعدات لم تمر من دون إثارة شكوك فقد تزامنت مع ما نشرته وسائل إعلام غربية عن وجود محادثات بين إسرائيل وجنوب السودان لإعادة توطين فلسطينيين من قطاع غزة ورغم أن وزارة الخارجية في جوبا نفت هذه الادعاءات، ووصفتها بأنها لا تعكس الموقف الرسمي للدولة، فإن توقيت الإعلان الإسرائيلي أعطى انطباعاً بأن ثمة محاولة لاستخدام الغطاء الإنساني لتمرير أجندة سياسية مرتبطة بالصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
خلفية تاريخية للعلاقات:
العلاقات بين إسرائيل وجنوب السودان ليست وليدة اللحظة. فمنذ ستينيات القرن الماضي، اعتمدت تل أبيب على سياسة "شد الأطراف" عبر دعم حركات التمرد الجنوبية ضد الخرطوم، التي كانت تُصنَّف ضمن المعسكر العربي والإسلامي المناهض لإسرائيل.
وبعد استقلال جنوب السودان عام 2011م، سارعت إسرائيل للاعتراف بالدولة الجديدة وأقامت معها علاقات دبلوماسية كاملة، لتصبح جوبا حليفاً محتملاً في قلب القارة الإفريقية.
إسرائيل رأت في جنوب السودان موقعاً استراتيجياً يتيح لها مراقبة منابع النيل والتأثير على التوازنات المائية بين مصر والسودان كما وفرت العلاقة منفذاً لتعزيز حضورها في الاتحاد الإفريقي، إلى جانب فرص اقتصادية في قطاع النفط والبنية التحتية.
رغم أن الحرب الأهلية التي اندلعت في جوبا عام 2013 قلصت الطموحات الإسرائيلية، فإن الرهان على جنوب السودان لم يختف من حسابات تل أبيب.
غزة والنكبة الجديدة:
التقارير التي تحدثت عن تهجير سكان غزة إلى جنوب السودان جاءت في سياق حملة عسكرية إسرائيلية شرسة على القطاع، رافقتها تصريحات لمسؤولين إسرائيليين عن ضرورة "مغادرة الفلسطينيين" من أرضهم هذه الطروحات أعادت إلى الأذهان مشهد النكبة عام 1948م، حين أُجبر مئات الآلاف من الفلسطينيين على الرحيل. وأثارت هذه الأنباء ردود فعل غاضبة في المنطقة والعالم، باعتبار أن أي عملية تهجير قسري تمثل جريمة حرب وتطهيراً عرقياً وفق القانون الدولي.
البعد الإفريقي في الحسابات الإسرائيلية:
من منظور أوسع، تمثل جنوب السودان جزءاً من استراتيجية إسرائيلية تهدف إلى تعزيز نفوذها في إفريقيا، سواء عبر المساعدات الإنسانية أو عبر التعاون الأمني والعسكري فإلى جانب مصالحها في النيل والبحر الأحمر، تسعى تل أبيب إلى توسيع شبكة حلفائها الأفارقة لمواجهة العزلة الدبلوماسية التي تواجهها داخل المؤسسات الدولية.
بالتالي، فإن المساعدات المعلنة إلى جوبا قد تكون جزءاً من مشروع أوسع يتجاوز البعد الإنساني المعلن.
من جانبه يرى الخبراء أن إعلان إسرائيل عن تقديم مساعدات عاجلة إلى جنوب السودان يثير أسئلة أكبر من حجم الدعم نفسه ففي ظل التوترات المتصاعدة في غزة، والتقارير عن خطط التهجير، يصبح من الصعب فصل البعد الإنساني عن الحسابات السياسية.
العلاقة التاريخية بين تل أبيب وجوبا، وسعي إسرائيل المستمر لاستخدام إفريقيا كورقة استراتيجية، كلها عوامل تجعل من هذه المساعدات خطوة محملة بدلالات تتجاوز مواجهة الكوليرا أو دعم اللاجئين ويبقى التحدي الحقيقي أمام جنوب السودان هو الحفاظ على استقلالية قراره السياسي وسط ضغوط إقليمية ودولية متشابكة، فيما يبقى جوهر القضية الفلسطينية ماثلاً باعتباره محور الصراع الأكبر في المنطقة.