لبنان بين الدولة والسلاح: مواجهة على حافة الانفجار

2025.08.16 - 09:46
Facebook Share
طباعة

يعود لبنان مجدداً إلى قلب العاصفة السياسية مع اشتداد السجال حول ملف حصرية السلاح. القرار الحكومي الأخير بوضع خطة تنفيذية لنزع السلاح من خارج سلطة الدولة فجّر مواجهة مباشرة مع «حزب الله»، الذي رفع سقف تهديداته عبر أمينه العام الجديد نعيم قاسم، ملوّحاً وللمرة الأولى منذ توليه القيادة بـ"توترات داخلية" قد تفتح الباب على صراع أهلي جديد.

الشرارة الأخيرة

الشرارة انطلقت مع إعلان الحكومة اللبنانية برئاسة نواف سلام عن خطة واضحة لحصر السلاح بيد الدولة والجيش، خطوة وُصفت بأنها "الأجرأ" منذ سنوات في مواجهة سلاح الحزب. الرد جاء سريعاً من «حزب الله»، حيث اعتبر قاسم أن القرار يستهدف الحزب مباشرة، محذراً من تداعيات قد تهدد السلم الأهلي.

موقف نواف سلام

في مواجهة هذا التصعيد، جاء رد سلام حاسماً: «لا أحد من اللبنانيين يريد العودة إلى الحرب الأهلية، والتهديد والتلويح بها مرفوض تماماً». وأضاف في حديثه لصحيفة الشرق الأوسط: «ما نطلبه هو حصرية السلاح في أيدي الدولة. هذا يعني أن يسلم السلاح إلى الدولة اللبنانية ولجيشها الوطني. وإذا كان هناك من يشكك في وطنية الجيش اللبناني فليتفضل ويقول ذلك صراحة».

سلام شدد على أن حكومته "حكومة لبنانية وطنية تستمد قراراتها من مجلس الوزراء، وليست خاضعة لإملاءات خارجية، بل لمطالب اللبنانيين"، مؤكداً أن غالبية اللبنانيين تؤيد خطته.

انقسام لبناني وتحذيرات من مواجهة لا يريدها أحد


انقسمت المواقف بشدة. فشريحة واسعة من اللبنانيين، خصوصاً في الأوساط المدنية والشبابية، عبّرت عن ارتياحها لخطوة الحكومة معتبرة أن "لا مستقبل لدولة تنهض وسلاحها مشرذم". في المقابل، سادت مخاوف حقيقية من أن يؤدي القرار إلى انفجار أمني، حيث تذكّر البعض سيناريوهات 2008 وما تبعها من مواجهات دامية، مما جعلهم يطالبون بالحذر وعدم الدخول في مواجهة مفتوحة مع الحزب.

موقف «حزب الله»
جاء رد الحزب سريعاً وحاداً عبر أمينه العام نعيم قاسم، الذي رأى أن القرار "استهداف مباشر للمقاومة" ويمثل محاولة لفرض وصاية سياسية على الساحة اللبنانية. قاسم ألمح إلى أن "العبث بالسلاح قد يفتح أبواباً لا يريدها أحد"، في ما اعتُبر تلويحاً مبطناً بخطر الحرب الأهلية.

المؤيدون للحزب
في الضاحية الجنوبية ومناطق النفوذ، خرجت أصوات مؤيدة لموقف الحزب، معتبرة أن السلاح هو "درع لبنان" في مواجهة إسرائيل، وأن أي محاولة لنزعه تصب في مصلحة تل أبيب. كما اتهمت هذه الأصوات الحكومة بأنها "تعمل وفق إملاءات خارجية" تستهدف محور المقاومة.

إيران
أما إيران، الداعم الرئيسي للحزب، فقد التزمت خطاباً حذراً لكنها أوضحت عبر مصادر دبلوماسية أن "سلاح المقاومة ليس مطروحاً للتفاوض الداخلي"، معتبرة أن أي محاولة لسحبه ستُضعف لبنان أمام "العدو الإسرائيلي". طهران شددت على أن "الحزب جزء أساسي من منظومة الردع الإقليمي"، في إشارة واضحة إلى أن الملف لا يُحسم بقرار لبناني صرف، بل يرتبط بحسابات إقليمية أكبر.


ومنذ اتفاق الطائف عام 1989، الذي نصّ على حلّ جميع الميليشيات اللبنانية مع استثناء «حزب الله» باعتباره "مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي"، ظلّ سلاح الحزب جزءاً من المعادلة الداخلية. ومع الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب عام 2000، بدأ النقاش حول جدوى استمرار هذا السلاح بعد انتهاء الاحتلال المباشر. ثم جاء اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري عام 2005 ليفجّر الانقسام حول النفوذ السوري ودور الحزب، ما جعل ملف السلاح أكثر حساسية.

وفي السابع من أيار 2008، لجأ الحزب إلى استخدام سلاحه في الداخل لفرض معادلات جديدة، وهو ما اعتُبر محطة مفصلية أكدت استعداده لاستخدام القوة داخل الساحة اللبنانية. ومع اندلاع الحرب السورية بين 2011 و2017، شارك الحزب عسكرياً إلى جانب النظام السوري، ما رسّخ صورته كقوة إقليمية فاعلة تتجاوز حدود لبنان. غير أن هذه المشاركة كلّفته الكثير من رصيده الداخلي، إذ بات يُنظر إليه من قبل خصومه باعتباره أداة في صراع إقليمي.

ومع انهيار الاقتصاد اللبناني ابتداءً من عام 2019 وحتى اليوم، عاد مطلب "حصرية السلاح" ليطرح نفسه بقوة، خصوصاً مع ربط المجتمع الدولي أي خطة إنقاذ اقتصادي بوجود دولة قوية وجيش موحّد. وفي عام 2025، فجّرت خطة حكومة نواف سلام، الهادفة إلى حصر السلاح بيد الجيش، المواجهة السياسية الأوسع بين الدولة والحزب منذ سنوات.

 

ومنذ أكثر من ثلاثة عقود، يظلّ سلاح الحزب موضوعاً للجدل. فبينما يرى أنصاره أنه الدرع الحامي للبنان في مواجهة إسرائيل، تعتبره قوى سياسية واجتماعية واسعة العقبة الأبرز أمام قيام دولة سيّدة مستقلة. أحداث 7 أيار 2008 كانت لحظة فارقة، إذ برهنت أن الحزب لن يتردّد في استخدام سلاحه لترسيخ نفوذه الداخلي. ومع مشاركته في الحرب السورية، تعزّز دوره الإقليمي لكنه خسر كثيراً من الغطاء الوطني الجامع، إذ لم يعد يُنظر إليه كقوة مقاومة فقط، بل كذراع عسكرية ضمن محور إقليمي تقوده إيران.


البعد الإقليمي

لم يعد سلاح الحزب شأناً لبنانياً محضاً، بل تحوّل إلى جزء أساسي من إستراتيجية إيران الإقليمية في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة. هذه الحقيقة تجعل أي محاولة لبنانية داخلية لحصر السلاح تصطدم مباشرة بمعادلات إقليمية ودولية. في المقابل، يواصل الغرب ودول الخليج الضغط على بيروت لوضع "حصرية السلاح" شرطاً للحصول على أي مساعدات مالية أو دعم اقتصادي، فيما تصرّ طهران على اعتبار السلاح "خطاً أحمر" في معادلة الردع الإقليمي. هكذا يجد لبنان نفسه محاصراً بين مطالب الداخل، وضغوط الخارج، وتعقيدات الصراع الإقليمي الذي يتجاوز قدراته الوطنية.


السيناريوهات المستقبلية

تصعيد ميداني: في حال إصرار الحكومة على تنفيذ خطتها دون توافق، قد يلجأ الحزب إلى فرض معادلاته بالقوة، ما يهدد استقرار الداخل.

تسوية سياسية: عبر حوار برعاية إقليمية أو دولية، قد يتم التوصل إلى صيغة وسطية، مثل دمج تدريجي لسلاح الحزب ضمن الجيش.

مراوحة مفتوحة: وهو السيناريو الأكثر ترجيحاً، حيث تبقى القرارات معلقة بانتظار تحولات إقليمية كبرى، فيما يبقى لبنان عالقاً بين دولة مقيدة وسلاح خارج سلطتها.

هكذا يجد لبنان نفسه اليوم على فوهة بركان سياسي وأمني. بين مشروع دولة تسعى لحصرية السلاح، وحزب يرفض التخلي عن سلاحه باعتباره ضمانة إقليمية، يبقى الاستقرار اللبناني رهينة صراع أكبر من قدرته الداخلية، ومعلقاً على توازنات المنطقة والتسويات الدولية.


ماذا بعد؟

يبقى السؤال الجوهري: إلى أين يتجه لبنان بعد هذه المواجهة المفتوحة؟
هل ستتمكن حكومة نواف سلام من فرض خطتها وسط توازنات داخلية وإقليمية معقدة؟ أم أن «حزب الله» سيفرض معادلاته مرة أخرى، مستنداً إلى قوة سلاحه وامتداداته الإقليمية؟
الخيارات تبدو جميعها محفوفة بالمخاطر، فيما يظل الشارع اللبناني أسير الانتظار بين أمل بدولة سيدة كاملة السيادة، وخوف من انزلاق جديد إلى صراع أهلي يعيد البلاد عقوداً إلى الوراء.

 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 3 + 7