في مشهد دبلوماسي استثنائي، التقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في قاعدة "إلمندورف-ريتشاردسون" العسكرية بألاسكا، في أول قمة منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا عام 2022. استقبال بوتين الذي تضمن الحراسة العسكرية، سيارة ليموزين رئاسية، وصورة تاريخية تجمعه بترامب، لم يكن مجرد مراسم، بل رسالة سياسية رمزية قوية: الولايات المتحدة مستعدة للحوار، وروسيا تحتفظ بالثقل الاستراتيجي دون تقديم أي تنازلات.
لكن خلف هذه الصور الرمزية والابتسامات الدبلوماسية، اختبأت حقيقة أكثر تعقيدًا: القمة لم تُسفر عن أي تقدم ملموس في القضايا الجوهرية، وكانت مواجهة صامتة بين طموحات الولايات المتحدة لإنهاء الحرب في أوكرانيا، ورغبة روسيا في تأكيد نفوذها الإقليمي والدولي دون تقديم أي تنازلات. هذا التباين بين الرمزية والجوهر يمثل مفتاح فهم ما حدث في القمة وتحليل ردود الفعل الدولية المرتبطة بها.
تأتي قمة ألاسكا في مرحلة حرجة من العلاقات الدولية، بعد أكثر من ثلاث سنوات على اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا عام 2022. الولايات المتحدة تسعى إلى إنهاء الصراع وإعادة ترتيب تحالفاتها الأوروبية، بينما تواجه روسيا عزلة دولية وعقوبات اقتصادية واسعة. استضافة بوتين على الأراضي الأمريكية كانت خطوة رمزية تُظهر رغبة واشنطن في فتح قنوات حوار، لكنها في الوقت نفسه تحمل رسائل تحذيرية لدعم موقف أوكرانيا دون مواجهة مباشرة مع روسيا.
القمة انعقدت في قاعدة "إلمندورف-ريتشاردسون" العسكرية في أنكوريج، إحدى أهم القواعد الأمريكية في ألاسكا، وهي مزودة بأحدث تقنيات المراقبة والتأمين. هذا يعكس حرص الولايات المتحدة على التحكم الكامل في كل تفاصيل اللقاء، بما في ذلك تنقل بوتين والمرافقين، وإظهار صورة القوة والسيطرة أمام الرأي العام العالمي.
حضر اللقاء من الجانب الروسي الرئيس فلاديمير بوتين، وزير الخارجية سيرغي لافروف، ومساعد الرئيس يوري أوشاكوف، بينما مثل الولايات المتحدة الرئيس ترامب، وزير الخارجية ماركو روبيو، والممثل الخاص للرئيس الأمريكي ستيفن ويتكوف. وجود هذه الشخصيات يعكس الحرص على الجمع بين القيادة السياسية العليا والخبرة الدبلوماسية، لضمان إدارة دقيقة للمفاوضات والرسائل الإعلامية.
الأهداف المعلنة وغير المعلنة:
الجانب الأمريكي: تقديم رسالة للعالم بأن الولايات المتحدة لا تزال قادرة على إدارة الصراع الأوكراني، مع محاولة اختبار استعداد روسيا للانخراط في حل سياسي محدود.
الجانب الروسي: استثمار اللقاء لتعزيز مكانة بوتين دوليًا، إظهار نفوذ روسيا في مواجهة العقوبات الغربية، والحفاظ على المكاسب الإقليمية في أوكرانيا دون تقديم أي تنازلات جوهرية.
نشر البيت الأبيض صورة بوتين وترامب بالأبيض والأسود مع تعليق "الهدف دائمًا هو السلام"، يعكس استخدام الولايات المتحدة للجانب الرمزي للقمة للتأثير على الرأي العام الداخلي والخارجي. هذا النوع من الرمزية يُظهر القمة كنجاح دبلوماسي أمريكي، بينما يحافظ بوتين على صورته كزعيم قوي غير مستسلم.
ما الذي تحقق؟
على الرغم من الطابع الرمزي الكبير، إلا أن القمة لم تُسفر عن اتفاقات ملزمة أو خارطة طريق واضحة. بحسب مصادر مطلعة على الاجتماع:
أوكرانيا: ترامب طالب ببحث إمكانية "تجميد النزاع" وفتح مسار تفاوضي جديد، لكن بوتين شدد على أن أي حل لا بد أن يأخذ في الاعتبار "الواقع على الأرض".
الحد من التسلح: طُرحت فكرة استئناف قنوات الحوار بشأن معاهدات الأسلحة النووية، دون اتفاق فعلي.
العلاقات الاقتصادية: جرى نقاش أولي حول تخفيف العقوبات الأمريكية، لكن واشنطن ربطت ذلك بخطوات روسية ملموسة، وهو ما لم يتحقق.
بالتالي، خرجت القمة بإعلان نوايا أكثر منها نتائج عملية، ما يجعلها حدثًا رمزيًا أكثر منه اختراقًا سياسيًا.
أوروبا والصين بين القلق والترقب
الموقف الأوروبي:
القمة الأمريكية – الروسية أثارت قلقًا واضحًا في العواصم الأوروبية، خصوصًا برلين ووارسو وكييف. فالاتحاد الأوروبي يخشى أن يؤدي أي تقارب أمريكي – روسي إلى إضعاف الموقف الموحد ضد موسكو، أو إلى تقديم تنازلات على حساب أوكرانيا. مسؤولون أوروبيون وصفوا اللقاء بأنه "مقامرة دبلوماسية" قد تمنح بوتين شرعية دون مقابل حقيقي. فرنسا وألمانيا شددتا على أن أي مسار سياسي يجب أن يمر عبر إشراك أوروبا، لا أن يكون حوارًا ثنائيًا على حسابها.
الموقف الصيني:
بكين تابعت القمة باهتمام بالغ. فهي تدرك أن أي تقارب بين واشنطن وموسكو قد يحد من اعتماد روسيا المتزايد على الصين اقتصاديًا وسياسيًا منذ 2022. وفي الوقت نفسه، ترى الصين أن الحوار بين القوتين النوويتين قد يفتح مجالًا أمامها لتعزيز دورها كوسيط محتمل في الأزمة الأوكرانية. الإعلام الصيني الرسمي ركّز على أن القمة "خطوة رمزية أكثر منها عملية"، مبرزًا أن بكين ستظل الشريك الأوثق لموسكو طالما استمر الشك المتبادل بين روسيا والغرب.
الداخل الأمريكي: البيت الأبيض روّج للقمة كدليل على قدرة ترامب على "فتح قنوات للسلام"، فيما انتقد الديمقراطيون اللقاء ووصفوه بأنه "هدية مجانية لبوتين".
ما بعد القمة: مؤشرات واحتمالات
رغم أن قمة ألاسكا لم تخرج بقرارات حاسمة، إلا أنها تُعتبر كسرًا للجليد بين موسكو وواشنطن بعد سنوات من القطيعة. بعض المؤشرات توحي بأن اللقاء قد يكون بداية لمسار أطول:
فتح قنوات خلفية: تسريبات إعلامية أمريكية تحدثت عن نية الجانبين تشكيل فريق مشترك لمتابعة قضايا الأسلحة النووية، في خطوة قد تُعيد إحياء ما عُرف بـ"دبلوماسية المسارات الثانية".
هدنة سياسية مؤقتة: ترامب يسعى لاستخدام القمة كرسالة انتخابية داخلية بأن لديه القدرة على وقف الحرب عبر التفاوض، ما قد يترجم في الأسابيع المقبلة إلى دعوات لعقد لقاءات أخرى.
حسابات بوتين: بالنسبة لموسكو، مجرد الجلوس مع رئيس أمريكي جديد – بعيدًا عن العزلة الغربية – يُعد مكسبًا استراتيجيًا ورسالة بأن روسيا لا تزال لاعبًا لا يمكن تجاوزه.
لكن في المقابل، يظل هناك تشكيك واسع في أن يتحول اللقاء إلى مسار مستدام، في ظل غياب الثقة العميق، والانقسام الأمريكي الداخلي حول كيفية التعامل مع روسيا، فضلًا عن تصلب الموقف الأوروبي الذي قد يعرقل أي محاولات لتقارب ثنائي بين واشنطن وموسكو.
من هلسنكي 2018 إلى ألاسكا 2025
آخر قمة مباشرة جمعت بين رئيس أمريكي وبوتين كانت في هلسنكي عام 2018، حين التقى بوتين بالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. تلك القمة وُصفت حينها بأنها الأكثر إثارة للجدل، بعدما بدا ترامب متساهلًا مع بوتين في ملف التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، وهو ما أثار عاصفة انتقادات داخل واشنطن.
منذ اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا عام 2022، توقفت اللقاءات المباشرة تمامًا بين قادة الكرملين والبيت الأبيض. الإدارة الأمريكية في عهد جو بايدن تجنّبت أي قمة ثنائية، وركزت على فرض العقوبات ودعم كييف عسكريًا. وعليه، جاء لقاء ألاسكا 2025 ليكسر 7 سنوات من القطيعة الرئاسية، وليشكّل أول مواجهة مباشرة بين موسكو وواشنطن بعد سنوات من التصعيد والعزلة.
هذا الفاصل الزمني الطويل يعكس حجم التوتر في العلاقات، ويبرز أن مجرد عقد القمة بحد ذاته كان حدثًا استثنائيًا، بغضّ النظر عن مخرجاته العملية.
قمة ألاسكا، رغم رمزية صورها وشعاراتها عن "السلام"، لم تغيّر في الجوهر شيئًا من معادلة الحرب أو موازين القوى. لكنها فتحت نافذة جديدة في صيف سياسي ملتهب، يزدحم بالأزمات من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط. فالمشهد بدا أشبه بوقف مؤقت للزمن: ابتسامات دبلوماسية في مواجهة برود استراتيجي، ورسائل متبادلة دون تنازلات حقيقية.
النتيجة الأوضح أن واشنطن وموسكو ما زالتا تتحركان وفق حسابات دقيقة، تتجنب الانزلاق إلى مواجهة مباشرة، لكنهما في الوقت نفسه غير مستعدتين بعد لصفقة كبرى تنهي الحرب. في هذا السياق، سيبقى اللقاء في ألاسكا جزءًا من ذاكرة صيف 2025: حدث استثنائي بلا اختراق، لكنه يضع بذورًا قد تنضج في فصول السياسة المقبلة.
.