في سبعة أيامٍ قليلة تحوّل خضمّ الحرب على غزة إلى مرآةٍ تكشف تشابكات نفوذ وإستراتيجيات مصالح بين دول إقليمية وغربية.
ثلاث وقائع متقاربة زمنياً — سفينة سعودية يُقال إنها محمّلة بأسلحة، طائرةٍ مزعوم أنها إماراتية تحمل مرتزقة إلى دارفور سقطت بقصف، وصفقة غاز تاريخية بين مصر وإسرائيل — لا تُقرأ مجرّد حوادث عابرة، بل هي علامات على شبكة مصالح تجارية وعسكرية وسياسية تعيد رسم خرائط القوة في المنطقة، وغالب الضحايا هم المدنيون في غزة والسودان.
هذا التقرير يركز على الخلفيات: لماذا حدث كل ذلك؟ من المستفيد؟ وما دلالات التوقيت؟
عمال ميناء جنوى يوقفون تحميل السفينة «Bahri Yanbu» للاشتباه بحمولات عسكرية متجهه الي إسرائيل
في 7 أغسطس 2025، أوقف عدد من العمال والنقابيين في ميناء جنوى الإيطالي عملية تحميل على متن سفينة الشحن السعودية «Bahri Yanbu»، مؤكدين أنهم لا يرغبون في أن يكونوا «شركاء في الحرب».
جاء الإيقاف بعد أن قالوا إنهم اكتشفوا وجود حمولات عسكرية (كالذخائر أو المعدات المسلحة) أو على الأقل حمولة يُشتبه بأنها متصلة بعملية نقل معدات عسكرية نحو وجهة يُتداول أنها إيلات/إسرائيل .
بحسب تقارير متعددة، أجرى العمال تفتيشاً ميدانياً على متن السفينة، وزُعم أن بعض الحاويات تحتوي على معدات عسكرية — يُشار إلى مدافع من إنتاج شركة Leonardo الإيطالية (مثل Oto Melara) — وأن وجودها على متن السفينة أثار رفضهم تحميلها .
السفينة وصلت إلى جنوى قادمة من موانئ أميركية، وفق بيانات الملاحة وإعلام الملاحة البحرية. وتشير بيانات متخصصة إلى أن “Bahri Yanbu” تسير ضمن شبكة شحن تشمل محطات شمال أميركا وأوروبا والبحر المتوسط .
وقعت الحادثة في ظل وجود شبكات لوجستية معقدة تديرها شركات شحن وطنية كبرى، مثل «بحري» السعودية، والتي تسير خطوطاً تجارية دولية تربط بين موانئ أميركية وأوروبية وشرق المتوسط. هذه الخطوط غالباً ما تضم شحنات مدنية وأخرى عسكرية ضمن الرحلة الواحدة، الأمر الذي، في غياب رقابة صارمة، يفتح المجال أمام مرور مواد عسكرية داخل النقل التجاري. وتؤكد النقابات أن هذا النمط المختلط كان سبباً في اكتشاف الحمولات المثيرة للريبة أثناء التفتيش في ميناء جنوى.
إلى جانب ذلك، تلعب صناعة السلاح الأوروبية دوراً مباشراً في خلفية المشهد، حيث تُعد شركات مثل «ليوناردو» الإيطالية من أبرز مورّدي المعدات الدفاعية، بما في ذلك المدافع والأنظمة العسكرية. مرور منتجاتها على متن سفينة متجهة عبر أوروبا نحو شرق المتوسط يضع روما وبروكسل في موقف دقيق، خاصة في ظل القيود التي تفرضها القوانين الأوروبية على تصدير السلاح في أوقات النزاعات أو في ظل أوضاع حقوقية حساسة.
كما برز الضغط النقابي كعامل حاسم في مجريات الأحداث. فقد أظهرت نقابات عمال ميناء جنوى قدرتها على تعطيل عمليات لوجستية واسعة النطاق، وهو ما يعكس تصاعد الحراك النقابي الأوروبي الرافض للتورط في شحنات أسلحة يُعتقد أنها موجهة إلى مناطق نزاع. هذه التحركات باتت تمثل أداة ضغط مؤثرة لفرض مزيد من الشفافية والرقابة على حركة البضائع ذات الاستخدام العسكري.
حتى 11 أغسطس 2025، لم تصدر وزارة الدفاع السعودية أو شركة «البحري» أي بيانات تفصيلية حول طبيعة الحمولة أو ما إذا كانت تتضمن معدات عسكرية، كما لم تكشف عن وجهتها النهائية.
كذلك، لم تُعلن السلطات الإيطالية، بما في ذلك هيئة ميناء جنوى، عن أي تأكيد رسمي لوجود حمولة عسكرية، ولم تشر إلى فتح تحقيق إداري أو قضائي. وبذلك، تظل المعلومات المتداولة قائمة على تصريحات النقابات والتقارير الإعلامية، دون أن تدعمها تأكيدات رسمية من الجهات المعنية.
صفقة الغاز المصرية–الإسرائيلية (ليفاياثان): خلفيات اقتصادية وسياسية في سياق إقليمي حساس
في السابع من أغسطس 2025، أعلنت الشركات الشريكة في تطوير حقل الغاز الإسرائيلي «ليفاياثان» عن توقيع اتفاق وُصف بالتاريخي لتوريد نحو 130 مليار متر مكعب من الغاز إلى مصر حتى عام 2040، بقيمة إجمالية تقارب 35 مليار دولار.
وبحسب بنود الاتفاق، ستبدأ مصر في استلام نحو 20 مليار متر مكعب اعتباراً من عام 2026 عبر خطوط الربط القائمة، على أن تُرفع الكميات إلى نحو 110 مليارات متر مكعب بعد استكمال توسعات البنية التحتية، بما في ذلك إنشاء خط أنابيب بري يمر عبر معبر نيتزانا. ويُقدَّر احتياطي الحقل نفسه بحوالي 600 مليار متر مكعب، ما يجعله الأكبر في شرق المتوسط.
خلفيات اقتصادية مؤثرة
تراجع إنتاج مصر المحلي من الغاز منذ عام 2021 شكّل عاملاً محورياً وراء الصفقة. هذا التراجع ارتبط بإخفاقات تشغيلية وتأخّر استثمارات، إضافة إلى تحديات فنية وإدارية في حقل «ظهر» البحري، فضلاً عن تأخر سداد مستحقات شركات أجنبية كبرى مثل «إيني». النتيجة كانت تحول مصر، في بعض الفترات، من دولة مصدّرة إلى مستوردة صافية للغاز، الأمر الذي انعكس على قطاع الكهرباء والاقتصاد المحلي.
من الناحية الاقتصادية، يُعد الغاز الإسرائيلي المورد عبر الأنابيب أقل تكلفة من استيراد الغاز الطبيعي المسال عبر الشحن البحري، وهو ما يمنح مصر وفورات تشغيلية ويعزز قدرتها على تشغيل مصانع الإسالة ومحطات الكهرباء، فضلاً عن توفير الغاز للاستهلاك الصناعي والمنزلي. وتسوّق القاهرة الاتفاق باعتباره خطوة لإعادة ترسيخ دورها كمركز إقليمي للطاقة في شرق المتوسط.
البعد السياسي والجدل الشعبي
يأتي الإعلان عن الصفقة في لحظة إقليمية شديدة الحساسية، حيث تزامن مع تصاعد العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة. هذا التزامن أثار غضباً شعبياً في مصر والعديد من الدول العربية، وسط انتقادات بأن عائدات الصفقة قد تُستخدم في تمويل العمليات العسكرية.
وفي المقابل، أكدت القاهرة أن الاتفاق امتداد لتفاهمات سابقة موقعة عام 2019، وأن تعديلاته تهدف فقط إلى تلبية الاحتياجات المحلية وتشغيل مرافق الإسالة، مع التأكيد على أن الملف اقتصادي بحت. غير أن هذا التفسير لم ينجح في إقناع جميع الأطراف المحلية، خصوصاً في ظل الفارق الكبير بين الاتفاق السابق والحجم الضخم للصفقة الجديدة.
نيالا.. الطائرة الساقطة التي أشعلت أزمة سودانية–إماراتية جديدة
في السادس من أغسطس 2025، أعلنت القوات المسلحة السودانية تنفيذ ضربة جوية استهدفت طائرة كانت تهبط أو تحاول الهبوط في مطار نيالا بجنوب دارفور. العملية أسفرت – بحسب بيان الجيش – عن مقتل عشرات المسلحين الأجانب، بينهم عدد كبير من المرتزقة الكولومبيين، إضافة إلى تدمير الطائرة التي وُصفت بأنها “إماراتية” ومحملة بالأسلحة. الخرطوم اتهمت أبوظبي مباشرة بتزويد قوات الدعم السريع بالسلاح والمرتزقة، في حين نفت الإمارات أي علاقة لها بالحادث ووصفت الاتهامات بأنها غير موثقة.
النفوذ الإماراتي في السودان
منذ سنوات، عززت أبوظبي حضورها الاقتصادي في السودان عبر استثمارات بالموانئ والزراعة وقطاعات خاصة، وبنت علاقات مع قادة مؤثرين في المشهد الأمني، بينهم قيادات الدعم السريع. هذا التمدد ترافق مع اتهامات – محلية ودولية – بتقديم دعم عسكري أو لوجستي، وهو ما أثار تحقيقات واهتمامًا أمميًا متكررًا.
ثروات دارفور الاستراتيجية
الإقليم غني بالذهب وموارد معدنية وتجارية أخرى، والسيطرة على هذه الثروات تمنح الأطراف المتحاربة نفوذًا اقتصاديًا واسعًا. تقارير مستقلة تشير إلى مسارات تهريب تربط دارفور بأسواق إقليمية ودولية، عبر وسطاء وشبكات عابرة للحدود.
اقتصاد المرتزقة العابر للقارات
وجود مقاتلين كولومبيين في هذه الواقعة يعكس نمطًا متصاعدًا في استقدام مرتزقة أجانب بعقود مدفوعة، تشارك فيه شبكات خاصة وأحيانًا دول تبحث عن قوة قتالية دون الانخراط المباشر في النزاعات.
الحادثة فجّرت أزمة علنية جديدة بين الخرطوم وأبوظبي. السودان فرض قيودًا على حركة الطائرات واتخذ إجراءات دبلوماسية، بينما واصلت الإمارات نفيها.
تحقيقات محلية ودولية، وأخرى في كولومبيا، تبحث في حقيقة هوية الطائرة والجهات الممولة. ورغم غياب الدليل القاطع حتى الآن، فإن الأمم المتحدة سبق أن وثّقت شبكات تسليح مرتبطة بجهات خليجية تصل إلى ساحة الصراع السوداني.
المواقف الرسمية حتي كتابه هذا التقرير
السعودية: لم يصدر توضيح مفصّل أو اعتراف رسمي علني حول نقل أسلحة عبر «بحري ينبع» حتى تاريخ التقرير. (مصادر نقابية وإعلامية محلية وإقليمية نقلت الوقائع).
مصر: أعلنت أن التعامل مع الغاز عملية اقتصادية وتقنية تمتدّ لاتفاقيات سابقة، وأن الهدف تأمين الطاقة وتشغيل مرافق التصنيع والتصدير. في المقابل واجه الإعلان انتقادات شعبية وسياسية محلية وإقليمية.
الإمارات: نفت الاتهامات بخصوص الطائرة ونقلت أنها «غير مثبتة» و«معلومات مضللة»، بينما كرّرت الخرطوم اتهاماتها وقطعت إجراءات دبلوماسية مؤقتة.
لماذا الآن؟ ومن الرابح؟
تداخل هذه الوقائع في أسبوع واحد ليس مصادفة؛ بل يعكس ديناميكيات إقليمية ودولية تتقاطع فيها مصالح السلاح والطاقة والنفوذ السياسي.
فالسعودية، رغم موقعها كحليف غربي وشريك اقتصادي رئيسي، تبقى جزءًا من شبكة تجارة السلاح العالمية التي تستفيد من تصاعد التوترات، حيث تتيح النزاعات في غزة والسودان أسواقًا نشطة لتدفق المعدات العسكرية.
أما صفقة الغاز المصرية–الإسرائيلية، فتمنح الطرفين أرباحًا اقتصادية ضخمة، لكنها تطرح سؤالًا حول استخدام العائدات في ظل حرب مفتوحة على غزة، ما يجعل إسرائيل المستفيد الاستراتيجي الأبرز اقتصاديًا، فيما تحصل القاهرة على شريان طاقة حيوي يخفف أزمتها الداخلية.
في المقابل، تمثل حادثة طائرة نيالا نقطة توتر حادة بين الخرطوم وأبوظبي، تكشف كيف توظَّف الصراعات الإقليمية كساحة لتصفية حسابات النفوذ، خصوصًا على موارد دارفور.
توقيت هذه التطورات — وسط حرب غزة، وسباق السيطرة على الموارد، وتبدلات في التحالفات الإقليمية — يوحي بأن الأطراف المتورطة إما تسعى لتثبيت مواقعها قبل تغيّر موازين القوى، أو تستغل انشغال المجتمع الدولي بالحرب لتمرير صفقات وتحركات كانت ستواجه اعتراضًا أكبر في أوقات السلم.
تزامن هذه الوقائع الثلاث — شحن أسلحة مشتبه بها عبر سفينة سعودية، سقوط طائرة يقال إنها إماراتية محمّلة بالمرتزقة في دارفور، وصفقة الغاز المصرية–الإسرائيلية — ليس محض صدفة زمنية، بل يعكس دينامية أوسع في إعادة توزيع النفوذ الاقتصادي والعسكري في المنطقة، وسط حرب غزة التي تحوّلت إلى مسرح ضغط جيوسياسي وتجاري.
1. لماذا حدث ذلك؟
تصاعد الطلب على السلاح: الحروب المفتوحة في غزة والسودان تدفع شبكات التسليح التقليدية وغير التقليدية إلى العمل بأقصى طاقتها، ما يزيد فرص مرور الشحنات عبر طرق مدنية مختلطة.
سباق السيطرة على الموارد: الغاز في شرق المتوسط والذهب في دارفور يمثلان أوردة مالية استراتيجية، من يسيطر عليها يعزز موقعه في المعادلات الإقليمية.
تبدل أولويات التحالفات: القوى الإقليمية تسعى لتأمين مصالحها قبل أي تسوية سياسية محتملة قد تغيّر قواعد اللعبة.
2. من المستفيد؟
إسرائيل: تحصل على موارد مالية من صفقة الغاز وتواصل تأمين احتياجاتها العسكرية عبر مسارات بحرية وتجارية مع حلفاء أو أطراف محايدة ظاهرياً.
القوى الإقليمية الكبرى (كمصر والإمارات والسعودية): تعزز أوراقها الاقتصادية أو الميدانية — مصر عبر إعادة التموضع كمركز للطاقة، الإمارات عبر النفوذ في مناطق الثروات والنقل الجوي الخاص، والسعودية عبر دور لوجستي عالمي في النقل البحري.
شركات السلاح والطاقة العالمية: من "ليوناردو" الإيطالية إلى كونسورتيوم "ليفاياثان"، كلها مستفيدة من تزايد الطلب والتوترات.
3. دلالات التوقيت
غطاء الحرب على غزة: الانشغال العالمي بالمجازر والدمار في غزة يسمح بتمرير صفقات وتحركات عسكرية واقتصادية أقل جذباً للانتباه الإعلامي.
تراكم الأزمات الإقليمية: السودان، غزة، الطاقة — كلها ملفات متشابكة تؤثر على خطوط التجارة والنفوذ، وأي طرف يريد تثبيت أقدامه قبل أن تستقر المعادلات.
الضغط الشعبي والجدل الداخلي: التزامن بين الصفقة الإسرائيلية–المصرية وتصعيد غزة أطلق موجة غضب، لكن أيضاً اختبر قدرة الحكومات على تمرير قرارات استراتيجية في ظل بيئة معارضة.