في مشهد يذكّر بكارثة نوتردام 2019، شهد مساء أمس مسجد-كاتدرائية قرطبة التاريخي حريقًا مفاجئًا كاد أن يُفقد العالم واحدة من أعظم أيقونات التاريخ الإسلامي-المسيحي. الحدث أعاد طرح السؤال المحوري: هل المواقع التراثية الكبرى محمية فعلًا أم ننتظر الكارثة التالية بصمت؟
هذا الحادث يُعتبر الثالث من نوعه في تاريخ المسجد، حيث شهد الموقع حريقين سابقين في عامي 1910 و2021. ورغم الأضرار المحدودة التي لحقت بالموقع، إلا أن الحريق الأخير يُبرز الحاجة الملحة إلى تعزيز إجراءات السلامة والصيانة في المعالم التاريخية، خاصة تلك التي تستقطب أعدادًا كبيرة من الزوار سنويًا.
المعلم الذي بني في عهد الأمويين، وخضع لاحقًا لتحولات سياسية ودينية حوّلته إلى كاتدرائية، ليس مجرد مبنى بل شاهد حي على صراعات ثقافية وحضارية تعود لقرون، الحريق الذي نشب في آلية كهربائية لتنظيف الأرضيات ليس مجرد حادث فني، بل يكشف عن نقص واضح في إجراءات الصيانة والسلامة.
على مدار السنوات الماضية، شهدت المواقع التاريخية في إسبانيا وأوروبا تقليصًا في الميزانيات المخصصة للحماية، مع تزايد ضغط السياحة، ما يجعل هذه الأماكن أكثر عرضة للكوارث غير المتوقعة. في قرطبة، الغفلة هذه كادت تؤدي إلى خسارة كبيرة، لكن الاستجابة السريعة لفرق الإطفاء حالت دون ذلك.
بلدية قرطبة قدمت بيانًا احتوى على طمأنة رسمية، لكن التحليل يكشف أن الأزمة أعمق من ذلك: ثمة هشاشة في آليات الوقاية والتدخل المبكر. أما اليونسكو، التي تتحمل مسؤولية الرقابة على مواقع التراث العالمي، فإن غياب تحديثات متطورة في البروتوكولات الأمنية للمواقع يعكس تخلفًا في مواجهة المخاطر المتنامية.
إرث يمتد لألف عام بين الحضارات
يعتبر مسجد-كاتدرائية قرطبة من أعظم المعالم التاريخية في إسبانيا والعالم الإسلامي، ويُعد نموذجًا فريدًا للتلاقح الحضاري بين الإسلام والمسيحية. تأسس الموقع في القرن الثامن الميلادي، تحديدًا عام 784م، على يد الأمير عبدالرحمن الداخل، الذي نجح في إقامة إمارة أندلسية مستقلة تميزت بالقوة والازدهار.
بدأت أعمال البناء على أنقاض كنيسة قديمة، وتحولت قرطبة على مدار القرن التاسع والعاشر إلى مركز حضاري وثقافي هام، حيث شهد المسجد توسعات متواصلة تحت حكم الخلفاء الأمويين الذين أضافوا أقواسًا مزخرفة وأعمدة من الرخام، وأسقفًا مزينة، ما جعله من أكبر المساجد في العالم آنذاك.
في عام 1236، وبعد استرداد الممالك المسيحية لشبه الجزيرة الإيبيرية، تم تحويل المسجد إلى كاتدرائية، مع الحفاظ على العديد من العناصر المعمارية الإسلامية، وإضافة تفاصيل وميزات كاثوليكية مثل المذبح الرئيسي والأروقة الجديدة. هذا الدمج المعماري الفريد يجعل من الموقع شاهدًا حيًا على تاريخ تداخل وصراع حضارات استمر لأكثر من خمسة قرون.
اليوم، يستقبل مسجد-كاتدرائية قرطبة نحو مليوني زائر سنويًا، وهو رقم قياسي يفرض تحديات كبيرة على إدارة الموقع وصيانته. التدفق الكبير للسياح يزيد من الضغط على البنية التحتية القديمة، ويضاعف مخاطر الحوادث المحتملة مثل الحرائق أو الأضرار الهيكلية. الإدارة تواجه مهمة صعبة في الموازنة بين فتح الموقع للجمهور والمحافظة على سلامته التراثية، وسط احتياجات مستمرة لتطوير أنظمة الحماية والصيانة التقنية.