كتبت- أماني إبراهيم
في السادس من أغسطس عام 2015، وقفت مصر على ضفاف قناة السويس لتعلن ولادة مشروع وطني من طراز خاص، قناة جديدة بطول 35 كيلومترًا، نُفذت خلال 12 شهرًا، وبأيدٍ مصرية خالصة، في ما اعتُبر آنذاك "معجزة زمنية" حقيقية.
المشهد لم يكن مجرد حفل افتتاح لممر ملاحي، بل كان استعراضًا لإرادة سياسية قررت أن تسترد مصر موقعها على خريطة التجارة العالمية، من بوابة قناة السويس.
المشروع وُلد سريعًا، وتم تمويله بالكامل من الداخل، عبر شهادات استثمار بلغت 60 مليار جنيه، جمعها المصريون في أقل من أسبوع، دون قروض خارجية أو شروط تمويلية. الرسالة كانت واضحة "القناة ملك لمصر، وتمويلها من ثقة الناس".
بين الأرقام والتطلعات.. ما الذي تحقق؟
من الناحية التشغيلية، حققت القناة الجديدة ما وُعد به: تضاعف عدد السفن المارة من 49 إلى نحو 97 سفينة يوميًا، وزمن العبور تراجع لأقل من 11 ساعة، بينما أصبحت القناة قادرة على استقبال السفن العملاقة بغاطس يصل إلى 65 قدمًا، بين عامي 2015 و2022، ارتفعت الإيرادات من 5.3 إلى 7 مليارات دولار سنويًا، قبل أن تصل إلى ذروتها التاريخية في 2023 بإجمالي 9.4 مليار دولار.
إلى هنا تبدو الصورة مثالية "مشروع وطني، عائدات متنامية، موقع جغرافي استراتيجي لا ينافسه ممر بحري آخر" لكن كل هذا الازدهار كان يتكئ على معادلة هشة، أن يستمر البحر الأحمر آمنًا، وأن تظل الملاحة مستقرّة، وهذا تحديدًا ما لم يحدث.
البحر الأحمر.. الخاصرة الرخوة للممر الأقوى
مع نهاية عام 2023، اشتعلت المياه، جماعة الحوثي في اليمن بدأت استهداف السفن التجارية في البحر الأحمر تحت شعار "نصرة غزة"، لتتحول المضائق الجنوبية إلى مناطق خطر مؤكد، ورغم أن مصر ليست طرفًا في النزاع، فإن قناة السويس تلقت الضربة الأولى.
أكثر من 14 شركة ملاحية كبرى قررت تحويل مسار سفنها من القناة إلى طريق رأس الرجاء الصالح، وفي ظرف أشهر، انخفض عدد السفن العابرة إلى النصف، وتراجعت الإيرادات بنسبة تتجاوز 60%، في النصف الأول من 2024، لم تتجاوز العائدات 3.99 مليار دولار، مقارنة بذروة العام السابق.
الحدث شكّل صدمة للمؤسسة المصرية، قناة جرى تسويقها بوصفها درعًا اقتصاديًا صلبًا، وجدت نفسها رهينة لمتغيرات جيوسياسية لا تتحكم فيها، لم يكن العيب في عمق القناة ولا في هندستها، بل في هشاشة المجال الإقليمي المحيط بها.
رد الدولة: توسعة جديدة وانتظار التهدئة
لم تقف هيئة قناة السويس مكتوفة الأيدي، في ديسمبر 2024، أعلنت استكمال تفريعة جديدة بطول 10 كيلومترات، ضمن مساعي رفع الطاقة التشغيلية، وكشفت عن دراسات لتوسعة إضافية تستغرق 16 شهرًا، تشمل الحفر والتعميق في قطاعات حساسة من القناة، تحسبًا لنمو مستقبلي في أحجام السفن.
لكن على الصعيد السياسي، لم تخرج القاهرة عن مربع الحذر، رهنت تحركاتها بمواقف التحالفات الدولية، واكتفت بالرهان على الضغط الغربي لوقف استهداف السفن، هذا الصمت المدروس يجنّب مصر الانجرار إلى مواجهات عسكرية، لكنه يطرح تساؤلًا محرجًا: إلى متى تبقى قناة السويس رهينة لتوازنات لا تصنعها مصر؟
الوعود التنموية.. أين المحور؟
حين أُعلن المشروع، لم يكن الحديث عن ممر مائي فقط، بل عن "محور قناة السويس"، باعتباره مركزًا لوجستيًا وصناعيًا عالميًا، بعد عشر سنوات، لا يزال هذا المحور يراوح مكانه.
بعض المشروعات بدأت في شرق بورسعيد، لكن الحجم الاستثماري ما زال دون التوقعات، والبنية التحتية لم تواكب الطموح، وسط تحديات تتعلق بالقوانين، وتكاليف النقل، وضعف الربط السككي والبحري مع العمق القاري.
نجحت الدولة في تسويق القناة الجديدة كرمز للسيادة، لكنها لم تنجح بعد في تحويلها إلى نقطة جذب صناعي واقتصادي، وهو ما يعيد طرح الإشكالية نفسها: المشروع الوطني تحقق هندسيًا، لكنه لم يُترجم بعد إلى مشروع تنموي شامل.
مشروع قائم.. ومهمة لم تكتمل
بعد عشر سنوات على الافتتاح، لا يمكن إنكار ما تحقق على الأرض: قناة ملاحية مزدوجة، بنية متقدمة، كفاءة تشغيلية، وإيرادات كانت مبشرة حتى وقت قريب. لكن في لحظة الحقيقة، تبيّن أن القناة، مهما عظمت، لا تستطيع تأمين نفسها في محيط ملتهب، والمفارقة أن المشروع الذي وُلد بقرار سيادي كامل، لا يزال يتأثر بتحولات إقليمية لا تملك مصر مفاتيحها.