في مشهد صادم لا يقلّ فظاعة عن مشاهد العنف داخل لعبة إلكترونية، هزّت جريمة مروّعة مدينة القامشلي شمالي سوريا، بعد أن أقدم فتى مراهق على قتل صديقه خنقًا، إثر شجار نشب بينهما أثناء لعب "ببجي" على الهاتف المحمول.
اللعب الذي خرج عن السيطرة
تفاصيل الحادثة وقعت في حي قدور بيك بعد منتصف الليل، حينما كان مجموعة من الأطفال يجلسون على الرصيف، مستغرقين في جولة جديدة من اللعبة الشهيرة "PUBG". وما بدأ كمباراة افتراضية، تحول بسرعة إلى شجار واقعي دموي، انتهى بقيام أحد الفتيان بخنق صديقه بيديه حتى فارق الحياة.
مصادر محلية وحقوقية أكدت أن دافع الجريمة كان الانتقام لخسارة افتراضية في اللعبة، في انعكاس مرعب لحالة الذوبان التي يعيشها بعض المراهقين بين الواقع والعالم الرقمي، حيث تنهار الحدود الأخلاقية تحت تأثير مشاعر غضب مستمدة من شاشة هاتف.
الغضب لا يهدأ.. والانتقام يمتد
ردة فعل عائلة الضحية كانت قاسية؛ فبمجرد علمهم بالحادثة، أقدموا على حرق منزل عائلة الطفل القاتل، ما أدى إلى نزوح عدد من العائلات المرتبطة بالمشتبه به، خشية تصاعد أعمال الانتقام.
وهكذا، لم تقف الكارثة عند حدود فقدان طفل، بل تحولت إلى سلسلة من الانفجارات الاجتماعية والنفسية، سلطت الضوء على واقع تربوي هش، وغياب شبه تام للرقابة الأسرية والمجتمعية.
"ببجي".. لعبة أم بوابة للعنف؟
"ببجي" ليست مجرد لعبة قتالية. هي عالم افتراضي يُلقي باللاعب في ساحة معركة، حيث يكون القتل الوسيلة الوحيدة للبقاء، والنجاة منوط بقدرتك على التخلص من الآخرين بأسرع وقت ممكن. في كل مباراة، يهبط مئة لاعب على خريطة مليئة بالأسلحة، ولا يخرج منها سوى ناجٍ واحد.
لكن الخطورة الحقيقية لا تكمن في اللعبة بحد ذاتها، بل في مدى تأثر العقول غير الناضجة بها. فالمراهق، الذي لم تتشكل لديه بعد أدوات التحكم في العاطفة أو مهارات إدارة الغضب، يعيش اللعبة كما لو أنها واقع. الهزيمة في اللعبة تصبح "إهانة"، والانتصار يصبح "حياة أو موتًا". في غياب أي إشراف أو توجيه، يمكن أن يتحوّل أي خلاف رقمي إلى كارثة واقعية.
أصداء إلكترونية ومطالب بالمحاسبة التربوية
على وسائل التواصل الاجتماعي، تفجّرت موجة من الغضب والأسى، ليس فقط من الجريمة ذاتها، بل من البيئة التي سمحت بحدوثها. كتبت الناشطة حنان المصري عبر منصة "إكس":
"لا يمكن اعتبار لعبة ببجي السبب المباشر للجريمة، لكنها كانت الشرارة. المشكلة الحقيقية هي أننا نترك أبناءنا للشاشات بلا توجيه ولا حوار".
أما أحمد كالو، فعلّق قائلاً:
"عندما يقتل طفل طفلًا بسبب لعبة، نحن أمام انهيار أخلاقي. يجب أن نعيد بناء بيوتنا قبل أن نلوم التكنولوجيا".
بينما أشار الإعلامي أنس خانقان إلى أن الحادثة تتطلب معالجة معمقة:
"الخطر ليس في اللعبة فقط، بل في غياب المساءلة التربوية، والبيئة التي تسمح بتحوّل اللعب إلى جريمة".
التأثيرات تتجاوز الصغار
ورغم أن الجريمة ارتكبها مراهق بحق زميله، إلا أن التحذير لا يخص فئة عمرية محددة. فهذه الألعاب، التي تقوم على الإثارة الدموية وسيناريوهات النجاة الفردية، تؤثر أيضًا على الكبار، وتعيد برمجة الاستجابات العاطفية والعصبية.
فوفقًا لدراسات علمية، فإن الانغماس في مثل هذه الألعاب لفترات طويلة يؤدي إلى:
- انخفاض التعاطف مع الآخرين.
- ارتفاع مستويات القلق والتوتر.
- اضطرابات النوم والسلوك.
- تأخر في النمو الاجتماعي والتواصلي.
ولدى الأطفال، يكون التأثير أكبر وأخطر، إذ تُضعف الألعاب العنيفة قدرتهم على التمييز بين الحقيقة والخيال، خاصة في ظل غياب التوجيه الأسري والمراقبة المدرسية.
ما الحل؟ رقابة وتوعية وتشريعات
الرد على مثل هذه الحوادث لا يجب أن يكون انفعاليًا أو وقتيًا. فالمشكلة باتت ظاهرة عالمية، تتطلب:
- سن قوانين واضحة تنظم استخدام الأطفال والمراهقين للألعاب الإلكترونية.
- تفعيل الرقابة الأبوية من خلال تطبيقات متخصصة.
- دمج التربية الرقمية في المناهج المدرسية.
- تعزيز برامج الصحة النفسية في المدارس والمجتمعات.
ما حدث في القامشلي ليس مجرد حادث فردي، بل جرس إنذار قوي. فحين يصبح القتل نتيجة لهزيمة في لعبة، علينا أن ندرك أننا لم نعد نواجه ألعابًا بريئة، بل عوالم موازية تهدد القيم والعقول والنفوس. إن المعركة الحقيقية اليوم، لم تعد على شاشة الهاتف، بل في البيت والمدرسة والمجتمع.