تقرير| أماني إبراهيم
في غزة بينما تتساقط المساعدات من الجو، يتساقط الأطفال من الجوع، ومع كل صندوق طعام مُسقط بالمظلة، يُحكم الخناق أكثر على غزة، وتُغلق المعابر أمام الحياة.
خلف الشعارات الإنسانية، تدير إسرائيل وحلفاؤها منظومة حصار محكمة، حيث يُستخدم الغذاء كسلاح، وتُقدّم المساعدات الدولية مشروطة ومحدودة، لا تسد رمقًا ولا تحفظ كرامة.
في غزة، لا شيء يصل كاملًا، لا الشاحنات تمر، ولا الطرود تكفي، ولا الجياع يعودون من طوابير الخبز سالمين.
وبينما تُسوّق إسرائيل لمبادرات إنسانية عبر الجو والبحر، تكشف الأرقام أن ما يصل فعليًا إلى السكان لا يتجاوز الفتات، وسط فوضى مفتعلة، وتوزيع خاضع لحسابات أمنية دقيقة.
المجاعة تتقدم.. والمساعدات لا تصل
تُظهر أحدث بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) أن غزة دخلت رسميًا في "مرحلة المجاعة"، حيث يعاني أكثر من 80٪ من السكان من انعدام الأمن الغذائي.
لكن بدلًا من فتح المعابر، تحوّلت المساعدات إلى استعراض جوي غير منظم، وصفته منظمات الإغاثة بأنه "عشوائي، غير مجدٍ، بل وخطير".
طائرات تلقي صناديق معلبة في مناطق مفتوحة، أحيانًا في البحر، أو في أماكن يصعب الوصول إليها.
أما من ينجح في الوصول، فيواجه طوابير الذل، واحتمالات الموت دهسًا أو برصاص الاحتلال.
الواقع كما توثّقه تقارير الأمم المتحدة أن نصف المساعدات التي تُسقَط جوًا أو تدخل بحرًا لا تصل أصلًا إلى مستحقيها ففي كثير من الحالات تُخزّن الشحنات في مناطق معزولة دون آلية توزيع واضحة وفي ظل غياب أي رقابة حقيقية تُنهب كميات كبيرة أو تفسد قبل أن يعثر عليها أحد ليأكلها
أرقام لا تحتمل التجميل
الأرقام وحدها كافية لنسف كل الروايات الرسمية فبحسب أحدث تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية يعاني نحو خمسة وسبعين بالمئة من سكان غزة من انعدام أمن غذائي حاد بينما وثّقت منظمات أممية مستقلة وفاة ما لا يقل عن مئة واثنين وعشرين شخصًا بسبب الجوع خلال أقل من ثلاثة أشهر بينهم ثلاثة وثمانون طفلًا كما سُجلت أكثر من ثمانية وعشرين ألف حالة سوء تغذية حاد إلى جانب خمسة آلاف إصابة مؤكدة بين الأطفال دون سن الخامسة وفي المقابل ما زالت آلاف الشاحنات المحملة بالمساعدات عالقة أو مرفوضة على المعابر رغم التصاريح والتنسيق المسبق في ظل تراجع ملحوظ في دخول الإمدادات الإنسانية منذ مارس وفقًا لتقارير برنامج الأغذية العالمي وأوتشا بينما تستمر "الاستعراضات الجوية" بلا أثر يُذكر على الأرض
غذاء مشروط.. وموت مبرمج
لم تكتفِ إسرائيل بمنع إدخال المساعدات عبر المعابر، بل شرعت في تفكيك المنظومة الأممية وتصفية "أونروا"، وإحلال منظمات بديلة تحت إشراف أميركي إسرائيلي مباشر.
مؤسسة جديدة تُدعى Gaza Humanitarian Foundation – يقودها رجال أعمال محسوبون على التيار اليميني الأميركي – بدأت توزيع مساعدات في بعض مناطق الجنوب.
لكن الأمم المتحدة تؤكد أن تغطيتها لا تتجاوز 40٪ من الحاجة، وأنها تعمل وفق خرائط أمنية لا إنسانية، تتحكم حتى في من يستحق الطعام ومن يُحرم منه.
إنها مساعدات بشروط، لا تمر إلا من غربلة المصالح العسكرية، وتُستخدم كأداة لإخضاع المجتمع الفلسطيني.
فوضى متعمدة ودم على الطحين
وفي مشاهد متكررة، سقط العشرات بين قتيل وجريح خلال التزاحم على نقاط توزيع الغذاء.
أحيانًا بسبب الفوضى، وأحيانًا أخرى برصاص مباشر من الجيش الإسرائيلي الذي يطلق النار على الجموع الجائعة، متذرعًا بـ"الاقتراب غير المصرح به".
تحوّلت المساعدات إلى فخاخ موت، و"الخبز" إلى رصاصة موقوتة، والمشهد الإنساني إلى مهزلة من إنتاج الاحتلال.
مساعدات للتسويق.. وتجويع ممنهج
ليست الكارثة في غزة نتيجة حرب طارئة، بل خلاصة سياسة تجويع ممنهجة، تُنفّذ عبر "مساعدات مشروطة" تُدار بحسابات صارمة لا تهدف إلى الإنقاذ، بل إلى إدارة الجوع.
هي جرعات إنسانية محسوبة بدقة: لا تكفي لإنقاذ الأرواح، لكنها تكفي لردّ الاتهامات أمام الكاميرات.
ما يجري على الأرض ليس إغاثة، بل استخدام ممنهج للغذاء كسلاح ضغط، وتحويل المساعدات إلى أداة هيمنة، ضمن مشروع سياسي يسعى لتفكيك الإرادة الفلسطينية، وتجريد المجتمع من أدوات الصمود.
حين يتحوّل الطحين إلى سلاح.. والجوع إلى رسالة
غزة لا تنتظر مظلات تحمل علب الحمص، بل تحتاج إلى معابر مفتوحة، وإرادة دولية لرفع الحصار، لا مجرّد عروض جوية تُصوَّر من السماء بينما يموت الطفل جائعًا على الأرض.
ما يُلقى من صناديق ليس مساعدة، بل عنوان لسياسة إذلال طويلة، يُراد لها أن تُقدَّم على أنها "مبادرات إنسانية"، بينما الحقيقة أن من يمنع الغذاء هو ذاته من يمنع الحياة.