كتبت- أماني إبراهيم
في زاوية معتمة من خيمة نزوح مهترئة، يجلس الشيخ سليم عصفور، وقد نحل جسده حتى صار هيكلاً يروي قصة شعب بأكمله، حكاية جوع ووجع تحت الحصار. سليم، الرجل السبعيني، أجبر على ترك بلدته عبسان الجديدة شرق خان يونس بعد تصاعد القصف الإسرائيلي، ليفترش الأرض ويلتحف الصمت في مخيم للنازحين جنوب القطاع.
سليم الذي كان صوته يصدح بالأذان من مئذنة مسجد الصحابة، بات اليوم يهمس بالكلمات بصوت بالكاد يُسمع. وجهه الغائر، وجسده النحيل الذي تآكلت عضلاته بفعل الجوع، يختصر مأساة غزة. فمنذ خمسة أيام، لم يدخل إلى جوفه رغيف خبز. "كنت أزن 80 كيلوغراما، واليوم بالكاد أبلغ النصف"، قالها سليم بنبرة المكسور، وهو يحاول رفع يده المرتجفة دون جدوى.
لم يكن الجوع وحده من سرق حياة الشيخ، بل الوحدة والخذلان. فقد سُحقت ذاكرة سليم بين ركام بيته المدمر، وانطفأ وهج عينيه حين شاهد جيرانه يُنتشلون من تحت الأنقاض. أما جسده، فقد صار شاهداً حياً على سياسة التجويع الإسرائيلية، التي باتت سلاحاً موازياً للصواريخ في حرب إبادة لا تفرّق بين شاب وشيخ، بين مقاتل ومؤذن.
في حديث مؤلم وثقته عدسة أحد الصحفيين، يناشد سليم العالم: "لا نطلب الكثير... فقط خبز وماء ودواء. هل هذا كثير؟". ويضيف بصوت مخنوق: "لم أعد أستطيع الوقوف للصلاة، ولم يعد أحد يرد السلام".
خيمة سليم ليست حالة فردية، بل صورة متكررة في غزة حيث المجاعة لم تعد كلمة إعلامية، بل واقعًا ينهش أجساد الكبار قبل الصغار. وفقاً لتقارير أممية، فإن أكثر من نصف سكان غزة باتوا يواجهون انعدامًا حادًا للأمن الغذائي، بينما تمنع إسرائيل دخول المساعدات وتواصل قصفها للبنى التحتية ومراكز الإغاثة.
سليم عصفور، الرجل الذي فقد وزنه وصوته وربما إيمانه بالعالم، لا يزال ينتظر. لا يعرف إن كان سيعيش ليرفع الأذان مجدداً، أو يُدفن كما عاش: جائعاً، مهمشاً، منسياً في بقعةٍ أُغلقت فيها أبواب الرحمة والنجاة.