في شوارع غزة المدمرة ومخيماتها المكتظة، تتكرر مشاهد لأطفال يعانون بصمت من مرض السكري وسط أزمة إنسانية متفاقمة. هم لا يفتقرون فقط إلى العلاج، بل أيضاً إلى الغذاء الضروري للحفاظ على حياتهم، فتختل المعادلة الدقيقة بين ما يحتاجه الجسد وما يمكن توفيره في ظل الحصار القاسي والانهيار الصحي المتواصل.
في زقاق ضيق من أحد المخيمات، انهار طفل مريض بالسكري أرضًا، مرتجف الأطراف، يبحث عن قطعة سكر تنقذه من انخفاض حاد في نسبة السكر في دمه. لم يجد سوى رغيف خبز دفعته إليه والدته، محاولة يائسة لدرء خطر الغيبوبة. هذه الحادثة، رغم قسوتها، ليست استثناءً، بل مشهد يتكرر في كل زاوية من غزة، حيث يعيش المئات من الأطفال المصابين بداء السكري دون الحد الأدنى من العناية الطبية أو الغذائية.
يواجه الأطفال المصابون بالنوع الأول من السكري في غزة واقعًا صعبًا منذ اندلاع الحرب وتصاعد الحصار. فأنظمة العلاج المنتظمة التي كانوا يتبعونها قبل الأزمة، والتي كانت تعتمد على جرعات محددة من الأنسولين، نظام غذائي متوازن، ومتابعة طبية دقيقة، باتت شبه مستحيلة. الأنسولين نادر، والأجهزة والشرائح اللازمة لقياس السكر شبه منعدمة، والطعام الكافي بات رفاهية لا يملكها معظم الأهالي.
كثير من الأطفال المصابين بالسكري لا يحصلون اليوم سوى على كميات رمزية من الطعام مثل الخبز أو العدس. وهم مضطرون للاختيار بين تناول الأنسولين من دون طعام، مما يعرّضهم لخطر انخفاض حاد في السكر، أو الامتناع عنه فتتدهور حالتهم الصحية. في كلتا الحالتين، النتيجة قد تكون مأساوية.
معاناة الأسر لا تقل عن معاناة الأطفال. فالأهالي يبذلون جهدًا غير عادي في البحث عن دواء أو وجبة مناسبة، وقد يتوقفون عن تناول الطعام بأنفسهم لتوفير لقمة لأبنائهم. كثير من العائلات تواجه يومياً معضلات تتعلق ببقاء أطفالهم على قيد الحياة: هل نعطيه حقنة أنسولين دون طعام؟ هل نغامر بقطعة حلوى قد تكون هي الوحيدة لدينا؟
ورغم الجهود المحدودة لبعض المؤسسات التي تحاول تأمين الحد الأدنى من المستلزمات، فإن الواقع يتدهور بوتيرة متسارعة. الوفيات بين الأطفال المصابين بالسكري في ازدياد، والمضاعفات تتصاعد: من نوبات فقدان الوعي إلى مشاكل في القلب والكبد والبصر.
النظام الصحي في غزة منهك تمامًا. المستشفيات غير قادرة على استقبال الحالات الحرجة الناتجة عن مضاعفات السكري، سواء بسبب نقص الأسرّة أو الأدوية أو الطواقم الطبية. أطفال يدخلون في غيبوبة دون أن يجدوا مكانًا للعلاج، وآخرون يُرسلون إلى بيوتهم بلا فحص ولا علاج، فقط بانتظار تدهور أكبر.
في ظل غياب الحلول الجذرية، تعتمد العديد من العائلات على التقدير والتجربة في إعطاء جرعات الأنسولين أو تناول الطعام. ومع انعدام أدوات القياس، يصبح الطفل هدفاً سهلاً لمضاعفات قد تودي بحياته خلال دقائق.
الوضع لم يعد يحتمل مزيدًا من التأجيل. فحياة مئات الأطفال المصابين بالسكري معلّقة بخيط رفيع، يتأرجح بين لقمة طعام مفقودة ودواء منقطع. هؤلاء لا يطلبون أكثر من حق بسيط في الحياة، في زمن باتت فيه الإنسانية تُختبر يوميًا في قطاع محاصر ومنكوب.
إن تأمين الإمدادات الطبية الأساسية من الأنسولين وأجهزة الفحص، وضمان وصول الغذاء الكافي والمتوازن، ليس ترفًا بل ضرورة لإنقاذ حياة مهددة في كل لحظة. فكل طفل مصاب بالسكري في غزة هو قصة كفاح يومي ضد الموت، ويستحق أن يُسمع صوته، لا أن يُترك وحيدًا في مواجهة الجوع والغيبوبة.