شهد الجنوب السوري خلال شهر تموز 2025 تصعيدًا عسكريًا غير مسبوق من قبل القوات الإسرائيلية، تراوح بين التوغلات البرية، والتحركات الجوية، وعمليات الدهم والاعتقال، بالإضافة إلى حرائق ممنهجة في الأراضي الزراعية، وسط غياب تام لأي رد فعل رسمي من السلطات السورية. هذا التصعيد يعكس سياسة عدوانية ممنهجة تنتهجها إسرائيل في التعامل مع الجنوب السوري، وتؤكد محاولاتها فرض واقع أمني جديد في المنطقة، لا يخدم إلا أجندتها التوسعية وأطماعها الإقليمية.
مشروع “صوفا 53” وتحركات عسكرية موسعة
أحد أخطر التحركات الإسرائيلية تمثّل في استمرار تنفيذ مشروع "صوفا 53"، وهو عبارة عن شبكة خنادق وسواتر ترابية ونقاط مراقبة تمتد داخل الأراضي السورية على عمق يصل إلى كيلومترين. يهدف هذا المشروع إلى ربط القواعد العسكرية الإسرائيلية على امتداد الشريط الحدودي مع الجولان المحتل، وتأمين ممرات آمنة لتحركات القوات الإسرائيلية داخل الأراضي السورية، وهو ما يعدّ خرقًا واضحًا لكل القوانين الدولية وقرارات مجلس الأمن المتعلقة بالجولان المحتل.
وقد تم رصد عمليات تجريف واسعة وتحركات ميدانية مكثفة في قرى مثل الحميدية، جباثا الخشب، حضر، نبع الصخر، بريقة، والصمدانية، إضافة إلى توغلات برية في عمق المناطق الحدودية، وتنفيذ عمليات دهم واعتقال بحق مدنيين سوريين، بينهم أطفال.
أساليب ترهيب وترويع السكان
لم تكتفِ القوات الإسرائيلية بالتوغلات والاعتقالات، بل عمدت إلى توزيع منشورات تحذيرية في القرى السورية، متهمة بعض السكان بالتعاون مع "المحور الإيراني"، في محاولة لبث الفتنة والفرقة داخل المجتمع المحلي، وخلق بيئة أمنية تخدم مصالحها. هذا الأسلوب الدعائي، الذي لا يخلو من التهديد المباشر، يُعدّ جزءًا من الحرب النفسية التي تمارسها إسرائيل لترهيب الأهالي وتفكيك أي روابط مقاومة محتملة في الجنوب السوري.
الحرائق المفتعلة.. حرب بيئية تستهدف الأرض والإنسان
اللافت في تصعيد تموز هو اندلاع حرائق ضخمة في أكثر من موقع زراعي، وخصوصاً في مناطق الرفيد وبئر عجم وبريقة. وبحسب شهود عيان وتقارير محلية، فإن هذه الحرائق ناتجة عن إطلاق نار مباشر من قبل القوات الإسرائيلية، ما أدى إلى تدمير عشرات الدونمات من الغطاء النباتي والمحاصيل، في سلوك يبدو أنه يهدف لتجريف الحياة من الجنوب السوري، وتهجير ما تبقى من السكان عبر ضرب مصادر رزقهم.
هذه "الحرب البيئية" ليست أقل خطورة من التحركات العسكرية، إذ تمثل امتداداً لسياسات الأرض المحروقة، وتشكل انتهاكًا واضحًا لاتفاقيات جنيف والبروتوكولات الدولية التي تجرّم استهداف المناطق الزراعية في النزاعات المسلحة.
إسرائيل.. من قوة احتلال إلى متحكم ميداني
التحركات الإسرائيلية الأخيرة تُظهر بوضوح انتقال إسرائيل من مجرد قوة احتلال في الجولان إلى فاعل ميداني مباشر داخل الأراضي السورية. لم يعد الأمر يقتصر على غارات جوية متفرقة، بل بات يشمل وجودًا بريًا فعليًا داخل القرى، وتنفيذ عمليات أمنية واستخباراتية، وفرض واقع أمني جديد يخدم مصالح إسرائيل في تطويق ما تسميه "التهديد الإيراني".
ولعل أخطر ما في الأمر هو أن هذه التحركات تتم على مرأى ومسمع من القوات الدولية (مثل قوات الأمم المتحدة التي ظهرت في نوى مطلع تموز) دون أن تحرّك ساكنًا، وهو ما يُعد تقاعسًا دوليًا صارخًا في تطبيق قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالجولان السوري المحتل ووقف إطلاق النار.
الجنوب السوري بين الاحتلال والتجاهل
ما يجري في الجنوب السوري اليوم هو عدوان حقيقي مكتمل الأركان. إسرائيل لا تكتفي بمراقبة الحدود، بل توغلت فعليًا في عمق الأراضي السورية، واعتقلت مدنيين، ودمرت المزروعات، وبنت تحصينات عسكرية على أرض ليست لها. وفي المقابل، تقف الحكومة السورية صامتة، غير قادرة على الرد، فيما يعاني السكان من الخوف والتشريد وفقدان الأمن.
إن السكوت عن هذه الممارسات لا يعني إلا التمهيد لمرحلة جديدة من السيطرة الإسرائيلية على الجنوب، وربما أبعد من ذلك. والمجتمع الدولي مطالب أكثر من أي وقت مضى بمساءلة إسرائيل على انتهاكاتها، ودعم أي جهد يحافظ على وحدة الأراضي السورية واستقلالها. كما أن أبناء الجنوب أنفسهم مطالبون باليقظة، والتمسك بحقهم في أرضهم، في وجه مشروع يسعى إلى اقتلاعهم من جذورهم، تحت غطاء "أمن إسرائيل"