في ظل تصاعد التوترات الأمنية والمواجهات المسلحة في محافظة السويداء جنوبي سوريا، تم تهجير أكثر من ألفي عائلة نحو محافظة درعا المجاورة، في مشهد يعكس هشاشة الأوضاع الإنسانية والانفلات الأمني الذي تشهده المنطقة. فقد أُجليت نحو 2068 عائلة خلال أيام قليلة، بعد أن أصبحت الأحياء التي تسكنها غير آمنة بسبب الاشتباكات والانتهاكات المتبادلة بين الفصائل المحلية والعشائر البدوية.
خارطة النزوح وأماكن الإيواء
العائلات المهجرة توزعت على 21 قرية وبلدة في محافظة درعا، كان أبرزها قرية أم ولد التي استضافت أكثر من 820 عائلة، تلتها المليحة الشرقية بـ170 عائلة، ومناطق مثل معربة، جمرين، رخم وغيرها. كذلك، تم إنشاء مراكز إيواء مؤقتة في كل من جباب، ناحتة، بصرى الشام، وبصر الحرير.
في بلدة ناحتة وحدها، تم استقبال 120 عائلة، حيث تعاون مجلس البلدية مع منظمات المجتمع المدني ومبادرات تطوعية لتقديم الاحتياجات الأساسية للنازحين، من أغطية وفرش إلى مواد غذائية وملابس. رغم ذلك، أشار المسؤولون المحليون إلى نقص حاد في الإمكانيات، مناشدين الجهات المختصة لتوفير مساعدات إضافية.
من الاحتجاز إلى الإجلاء
التهجير جاء بعد اتفاق غير معلن يقضي بإخراج المدنيين من محافظة السويداء إلى حين توفير ضمانات أمنية لعودتهم. الاتفاق شمل أيضًا الإفراج عن نحو 300 شخص، غالبيتهم من عشائر البدو، كانوا محتجزين في السويداء، وتم نقلهم إلى بلدة بصر الحرير.
أحد المحتجزين المفرج عنهم، ويدعى رياض الربيدان، قال إنهم تلقوا إخطارًا بالمغادرة عند الثالثة فجرًا، ولم يكن لديهم الوقت الكافي لجمع ممتلكاتهم. كما أشار إلى ظروف صعبة أثناء فترة الاحتجاز، حيث كانت وجبة الطعام المخصصة لكل فرد لا تتعدى نصف رغيف وحبة تمر للطفل. وأضاف أن بعض السكان المحليين أبدوا تعاطفهم، وجلبوا لهم الطعام بشكل شخصي.
حالات أخرى مثل أمجد الحمود من قرية أم اللحف، روت كيف تمت مصادرة ممتلكاتهم بالكامل، من منازل إلى ماشية، مؤكدًا أنه لن يعود إلى قريته قبل فرض سلطة الدولة ونزع السلاح من يد الفصائل المسلحة.
جذور التوترات والاشتباكات المستمرة
بدأت شرارة التصعيد في محافظة السويداء في منتصف تموز الجاري، بعد حادثة اختطاف شاب من أبناء السويداء على طريق دمشق – السويداء. وتبعتها عملية خطف مضادة من قبل أهله، لتتوسع الأمور إلى مواجهات مسلحة عنيفة بين فصائل محلية ومجموعات مسلحة من عشائر البدو، خصوصًا في بلدات مثل أم الزيتون وعريقة.
تزامنت هذه الاشتباكات مع قصف متبادل وتدخلات محدودة من قوات الأمن السورية، تبعتها ضربات جوية إسرائيلية أدت إلى انسحاب هذه القوات، مما زاد من تعقيد المشهد وتحويل السويداء إلى منطقة نزاع تتداخل فيها الصراعات المحلية مع الأجندات الإقليمية.
حصيلة دامية وأزمة متفاقمة
خلال أسبوع من العنف، تم توثيق مقتل ما لا يقل عن 558 شخصًا وإصابة أكثر من 780 آخرين، من بينهم أطفال ونساء وعناصر من الطواقم الطبية والإعلامية، بحسب “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” . وتشمل هذه الحصيلة مقاتلين من الطرفين، إلى جانب ضحايا مدنيين سقطوا وسط هذه الاشتباكات العشوائية والهجمات المفاجئة.
وفي الوقت الذي تسود فيه الفوضى المسلحة، يستمر القلق على المدنيين، خصوصًا النساء والأطفال، الذين يعيشون ظروفًا إنسانية بالغة السوء، ويجدون أنفسهم ضحية صراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
مواقف متباينة من الداخل
خرجت شخصيات بارزة من أبناء المحافظة للتعليق على الأحداث، أبرزهم ليث البلعوس، قائد “قوات شيخ الكرامة” ونجل مؤسس “رجال الكرامة”، الذي اتهم قيادات دينية محلية بالانفراد بالقرار والانخراط في أجندات خارجية. وفي خطاب مسجل، أكد على أهمية تحكيم العقل والقانون ونبذ العنف، مشددًا على أن محاولاته لتجنيب المحافظة الفوضى قوبلت بالرفض والتهديد.
لكن في المقابل، نفت “حركة رجال الكرامة” أن يكون ليث البلعوس ممثلًا عنها، وأكدت أن تصريحاته لا تعبّر عن مواقفها، مشددة على رفضها لأي تنسيق مع الحكومة أو الفصائل المدعومة منها. هذه الانقسامات بين الفصائل المحلية نفسها تضيف مزيدًا من التعقيد إلى المشهد.
دعوات لاحتواء الأزمة
في خضم هذه المأساة الإنسانية والسياسية، تنشط مبادرات محلية ودعوات من المجتمع المدني لاحتواء الأزمة ومنع تحولها إلى صراع مفتوح لا تحمد عقباه. كما دعت شخصيات اجتماعية وعشائرية إلى تشكيل لجان مشتركة تعمل على التهدئة، وتأمين عودة العائلات النازحة إلى منازلها بأمان.
لكن أمام هذا المشهد المعقد، يبدو أن الحلول ما زالت بعيدة، وسط غياب دور فاعل للمؤسسات الرسمية، وتردد المجتمع الدولي في التدخل أو حتى الإدانة الواضحة، ما يهدد بمزيد من التصعيد وموجات تهجير جديدة في حال استمرار حالة الانفلات.
ختام
السويداء اليوم أمام مفترق طرق حرج، حيث تقف بين خيار الانزلاق إلى فوضى أعمق أو الإمساك بفرصة أخيرة للحوار والتهدئة. ما بين الضحايا والنازحين، والمحتجزين والمسلحين، تبقى الحاجة ملحة لصوت العقل، وإرادة سياسية ومجتمعية تضع حياة الناس فوق الحسابات الضيقة والانتماءات.