وسط تصاعد التوترات في الجنوب السوري، أطلقت واشنطن سلسلة مواقف تعكس تحولًا في لهجتها تجاه دمشق، محذّرة من أن استمرار الفوضى والعنف قد يعيد خلط الأوراق في ما يتعلق بسياسة الانفتاح المحدود الذي بدأ مع رفع العقوبات الشهر الماضي. الرسائل الأميركية جاءت هذه المرة أكثر وضوحًا، وسط إشارات إلى أن فرصة استعادة الاستقرار في سوريا قد تكون قصيرة الأجل ما لم تلتزم الحكومة السورية بضبط الأوضاع واحتواء الفلتان الأمني.
وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، اعتبر أن أي أمل في سوريا موحدة وسلمية سيكون مرهونًا بقدرة دمشق على وضع حدّ للكوارث المتواصلة في الجنوب، وخاصة تلك المتعلقة بعودة التنظيمات المتشددة وتكرار أعمال العنف الجماعي. ودعا في تصريح نشره على منصة "إكس" إلى تحرّك سريع من قبل الدولة السورية للسيطرة على الميدان، عبر قواتها الأمنية، ومنع ما وصفه بموجات المجازر والانتهاكات التي تُرتكب بحق المدنيين، مؤكدًا في الوقت نفسه ضرورة محاسبة كل من تورط في جرائم ضد المدنيين، دون استثناء.
وفي ما بدا تلميحًا إلى إمكانية إعادة النظر في مسار الانفتاح الأميركي الأخير، أشار روبيو إلى أن أحداث السويداء الأخيرة وضعت مستقبل سوريا أمام مفترق خطير، موضحًا أن استمرار الاشتباكات بين مكونات اجتماعية كالبدو والدروز، دون تدخل حاسم من الدولة، يهدد وحدة البلاد ويفتح الباب أمام تدخلات خارجية جديدة.
المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توماس براك، ذهب أبعد من ذلك في تقييمه، معتبرًا أن الخطوة التي اتخذتها الإدارة الأميركية مؤخّرًا برفع العقوبات كانت مبادرة مشروطة بإشارات واضحة من دمشق على التوجّه نحو الاستقرار، لكنها لم تقابل حتى الآن بما يكفي من المؤشرات الإيجابية. وأوضح أن المشهد الحالي، بما يحمله من انفلات ميداني وتوسع لدورات الانتقام القبلي، يهدد بنسف أي مسعى لإعادة تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية في سوريا.
التحذير الأميركي لم يقتصر على الخطابات، بل تزامن مع تحرّك دبلوماسي نشط خلال الأيام الماضية شمل اتصالات مكثفة مع كل من إسرائيل، والأردن، وأطراف محلية داخل سوريا. وقد أشارت تصريحات المبعوث براك إلى أن هذه التحركات تهدف إلى كبح التدهور الأمني جنوب البلاد، وتثبيت اتفاق لوقف إطلاق النار في محافظة السويداء التي شهدت مواجهات دامية منذ منتصف الشهر.
ورغم الإعلان عن التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، إلا أن التطورات الميدانية أثبتت هشاشته، حيث تجدّدت الاشتباكات في أحياء من المدينة، وفي محيط قرى وبلدات تشهد توترًا دائمًا بين الفصائل المحلية والعشائر العربية. وتقول مصادر ميدانية إن النزاع تمدّد أيضًا إلى مناطق تقع على خط التماس مع ريف دمشق، ما يعكس عمق الانقسام وعدم قدرة أي طرف على فرض تهدئة مستدامة.
في السياق ذاته، عقد براك اجتماعًا مع قائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، ناقش فيه ملف توحيد البنى السياسية والعسكرية ضمن كيان سوري شامل، بما يضمن التمثيل المتوازن ويحفظ استقرار شمال شرق البلاد. اللقاء الذي جرى في قاعدة أميركية شمال الحسكة، اعتُبر رسالة إضافية مفادها أن واشنطن لا تزال تراهن على “قسد” كشريك موثوق في مكافحة تنظيم "الدولة الإسلامية"، وفي دعم مشروع سوريا اللامركزية.
في المقابل، ألقى الرئيس السوري أحمد الشرع خطابًا مصورًا تناول فيه تطورات الجنوب، معتبرًا أن ما حدث في السويداء كان نتيجة فراغ أمني مؤقت سمح بانزلاق الوضع نحو مواجهات قبلية، مدعومة – بحسب تعبيره – بضغوط إسرائيلية وقصف استهدف البنى التحتية الحكومية. وأكد الشرع أن الدولة السورية بذلت جهودًا لاستعادة زمام المبادرة، ونجحت في احتواء التصعيد ولو جزئيًا، متهمًا أطرافًا خارجية بمحاولة جر البلاد إلى الفوضى مجددًا.
يُشار إلى أن السويداء باتت خلال الأسابيع الأخيرة مسرحًا لصراع معقّد بين مكوّنات محلية، في ظل انسحاب تدريجي لقوات الحكومة من بعض المناطق، وتسليم مهام أمنية إلى فصائل اجتماعية. هذا الواقع الجديد دفع بعدد من القوى العشائرية إلى الدخول في مواجهات مفتوحة دفاعًا عن مجتمعاتها، بعد ما وصفوه بانتهاكات متكررة وعمليات تهجير واحتجاز.
المشهد السوري، إذاً، يدخل مرحلة دقيقة، حيث يتداخل الضغط الأميركي مع تفكك داخلي متسارع، في وقت يبدو فيه أن فرص الاستقرار ستبقى رهينة بحسم سياسي وأمني لا يزال بعيد المنال.