يتعرض الجنوب السوري، خصوصًا محافظتي القنيطرة ودرعا، لتصعيد ميداني غير مسبوق من قبل القوات الإسرائيلية. تمثّل ذلك في توغلات عسكرية متكررة، اعتقالات، مداهمات، استفزازات ضد المدنيين، وتخريب واسع للأراضي الزراعية عبر حرائق يُعتقد أنها متعمدة. يأتي ذلك في وقت تغيب فيه أي مساءلة دولية حقيقية، وسط صمت مخزٍ من المؤسسات الأممية، وعلى رأسها قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في الجولان.
إسرائيل، التي طالما قدّمت نفسها كدولة "ديمقراطية" تدافع عن "أمنها"، تخوض في الجنوب السوري حربًا صامتة غير مُعلنة، تخلط فيها بين العمل العسكري، والتحريض النفسي، والحرب البيئية، بما يكرّس منطق القوة والهيمنة، في تجاوز واضح لكل القوانين الدولية، وسيادة الدول، وحقوق الإنسان.
تغوّل ميداني وتكتيك عدواني
منذ بداية تموز، نفذت القوات الإسرائيلية سلسلة من التوغلات الميدانية شبه اليومية في مناطق ريف القنيطرة الأوسط والجنوبي، شملت قرى مثل رويحينة، الصمدانية، الدواية، نبع الصخر، وسويسة، إضافة إلى مناطق قرب سد المنطرة ومفرق عين البيضة. هذه التحركات لم تكن مجرد استعراض قوة، بل رافقتها مداهمات للمنازل، تفتيشات، واعتقالات طالت مدنيين بينهم أطفال، فضلًا عن إهانات لفظية وترهيب منظم للسكان.
هذه العمليات تجري أمام أعين القوات الأممية، التي تكتفي بالمراقبة دون تدخل، في تناقض فاضح مع مهامها المفترضة في حماية خطوط وقف إطلاق النار ومراقبة خفض التصعيد.
مشروع "صوفا 53": جدار عسكري داخل الأراضي السورية
و تواصل إسرائيل توسعة مشروعها العسكري المعروف بـ"صوفا 53"، وهو ممر ترابي معزّز بسواتر وخنادق بارتفاعات تصل إلى 7 أمتار، يمتد بعمق يصل إلى كيلومترين داخل الأراضي السورية. يمتد هذا المشروع من القحطانية والحميدية حتى جباثا الخشب وحضر، ويهدف إلى ربط القواعد العسكرية الإسرائيلية المنتشرة على طول الشريط الحدودي، مما يمنح تل أبيب قدرة تنقل ميداني كامل داخل الأراضي السورية دون أي عوائق.
هذا السلوك، الذي يعكس توسّعًا ميدانيًا خارج الحدود، لا يلقى أي ردع دولي، ويؤشر إلى سياسة إسرائيلية واضحة تقوم على فرض واقع جديد بالقوة، في غياب القانون الدولي.
منشورات تحريضية وسياسة تفكيك اجتماعي
ضمن الحرب النفسية، ألقت القوات الإسرائيلية منشورات ورقية في بلدات جنوبية سورية مثل البصلي وأم اللوقين، تحذّر السكان من "التعاون مع المحور الإيراني"، وتُسمي أفرادًا تتهمهم بـ"الخيانة". هذه المنشورات تهدف إلى تفكيك النسيج الاجتماعي المحلي، وخلق بيئة من الشك والخوف والقطيعة بين السكان وبعضهم، وهو أسلوب اعتادت عليه إسرائيل في مناطق الصراع، كجزء من أدوات الهيمنة الناعمة بالتوازي مع الضغط العسكري.
هذه الممارسات تُعدّ تدخلًا سافرًا في الشؤون الداخلية السورية، ومحاولة لصناعة وكلاء محليين يخضعون للإرادة الإسرائيلية في مواجهة خصومها الإقليميين.
حرائق متعمدة... سلاح خفي ضد المدنيين
من أخطر الانتهاكات التي رُصدت مؤخرًا، سلسلة من الحرائق الواسعة التي طالت مساحات زراعية ومراعٍ في قرى مثل بئر عجم، بريقة، الصمدانية، القحطانية، والرفيد. وبحسب روايات محلية وشهادات متقاطعة، فإن مصدر هذه الحرائق كان إطلاق نار مباشر من القوات الإسرائيلية نحو الحقول، ما أدى إلى تدمير المحاصيل، وموت عدد كبير من الحيوانات، وحرمان مئات العائلات من مصادر رزقها الأساسية.
إن استخدام الطبيعة والبيئة كسلاح، يُعدّ جريمة حرب بموجب القانون الدولي الإنساني، ويكشف عن الوجه الحقيقي لهذا التصعيد الذي يستهدف الإنسان والأرض على حد سواء.
صمت الأمم المتحدة: شريك أم عاجز؟
وسط هذا التصعيد، اقتحمت قافلة تابعة لقوات الأمم المتحدة مدينة نوى، دون إصدار أي بيان رسمي يوضح سبب الزيارة أو مهمتها، ما زاد من الشكوك حول طبيعة الدور الأممي في الجنوب السوري.
فبينما تُدمر البيوت، ويُعتقل الأطفال، وتُحرق الحقول، لا يصدر عن المجتمع الدولي سوى بيانات روتينية جوفاء لا تردع المعتدي ولا تنصف الضحية، ما يجعل من صمت المؤسسات الدولية مشاركة غير مباشرة في هذه الانتهاكات المتكررة.
إسرائيل... الدولة فوق القانون؟
إن ما تقوم به إسرائيل اليوم في الجنوب السوري لا يمكن تفسيره سوى باعتباره مشروعًا احتلاليًا تدريجيًا، قائمًا على سياسة خلق مناطق عازلة، وتوسيع نفوذها الأمني خارج حدودها، تحت ذريعة "مواجهة إيران وحزب الله".
لكن الواقع يقول إن الضحية الأكبر لهذا التصعيد هي المدن والقرى السورية، وبيئة الجنوب الهشّة، وسكانه المدنيون العُزّل، الذين تُسلب أراضيهم وكرامتهم يومًا بعد يوم، دون أدنى مساءلة.
وبينما تنشغل الدول الكبرى بـ"ضبط التوازنات الإقليمية"، تستغل إسرائيل هذا الانشغال لتكريس وجودها، وتجعل من الحدود مع الجولان المحتل ساحة مفتوحة للتجريب العسكري والانتهاك القانوني.
ختامًا: الجنوب السوري ينزف... وأين العالم؟
ما يحدث اليوم جنوب سوريا هو أكثر من مجرد خروقات عسكرية؛ إنه انكشاف كامل لمنظومة القانون الدولي أمام قوة غاشمة تسعى لفرض واقعها بالسلاح، على مرأى العالم وصمته.
وفي ظل غياب الردع الحقيقي، تبقى الأرض السورية مستباحة، والناس رهائن لتوازنات لا تمثلهم، بينما تواصل إسرائيل بناء "جدارها الأمني" داخل دولة ذات سيادة، وكأن شيئًا لم يكن.
فهل آن الأوان للعالم أن يتوقّف عن التواطؤ بالصمت؟ أم أن الجنوب السوري سيبقى مجرد هامش آخر في أجندة المصالح الكبرى؟